التَّداعِياتُ الاقتصادِيّة والجيوسياسيَّة لتفجيرِ وجهِ لُبنان

البروفِسور مارون خاطر*

تَزامَنَ تفجيرُ مرفإِ بيروت مع اشتدادِ الأزمتَين الصحِّية والاقتصاديَّة، فشكَّل الصوت المُدوّي للإنهيار الموعود. في ٤ آب/أغسطس ٢٠٢٠، دُمِّر مرفأُ بيروت ودُمِّرت بيروت، طُعِنَ قلبُ لبنان وفُجِّر وجهُه!

لتفجيرِ المرفإِ تداعياتٌ ذات أبعادٍ اقتصاديَّة وجيوسياسيَّة وهي بمُجملها مُتداخلة ومُتشابِكة داخلياً وخارجياً.

في الاقتصاد، تأثَّرَت الإمدادات الغذائية التي يُشكِّلُ الاستيرادُ ٨٥٪ منها. أُغلقت بوابة لبنان ومَنفَذُهُ على العالم، سُحِقَ المِرفَق الذي يؤمّن أكثر من ٧٠٪ من الحركة التجارية وقُرابة٩٠٪ من حركة الحاويات. خَسِرَت الدولة مداخيلَ كبيرةً تُقَدَّر بنصف مليار دولار سنوياً. لم يبقَ للبنان إلَّا الفُرَص الضائعة بفعلِ عدم القدرة اللوجستية والتِقنية على إعادةِ تشغيلِ المرفإ في المدى المنظور من جهة، وبسبب فقدان الثقة بالدولة اللبنانية الفاشلة من جهةٍ ثانية. إقتصادياً، أصبح الرابع من آب/أغسطس يوماً أُعلِنَ فيه لبنان بلداً منكوباً. تُشير اليونيسف بناءً على مسحٍ أجرته في تموز/يوليو ٢٠٢١ الى أن ٧٠٪ من العائلات المُستَطلَعة آراؤها طلبت مساعدات غذائية بعد التفجير، وأنَّ وضعَها لا يزالُ سيّئًا، وأنَّ حاجتها للمساعدة في ازدياد دائم. من ناحيةٍ أُخرى، تُشيرُ نتائج المسح إلى أنَّ ٥٠٪ من البالغين لا يزالون يُعانون من ضغوطاتٍ نفسية بسبب هَول الكارثة. التفجيرُ الذي دمَّر المؤسسات والشركات والأعمال أدّى إلى فقدان الآلاف وظائفهم مما أجبرهم على طلب المساعدة لتأمين حاجيات أفراد عائلاتهم، بخاصةً الأطفال. ساهَمَ انتشارُ جائحة كورونا بتفاقمِ أزمة اللبنانيين المعيشيَّة والصحِّيَة. تُشيرُ أرقامُ الأمم المتحدة إلى أن فردًا واحدًا على الأقل في واحدة من بين كل أربع عائلات أُصيبَ بكوفيد منذ وقوع التفجير. في سياق مُتَّصل، أشار مسحُ اليونيسف، المُشار إليه آنفاً، إلى أنَّ قُرابة ٧٠٪ من الأُسَر المُستَطلَعة لم تحصل على الرعاية الصحِّيَة أو الأدوية منذ ذلك اليَوم المَشؤوم. ألحَقَ التفجير اضرارًا مُتفاوتة الجسامة في أكثر من ١٦٠ مدرسة مما أثَّر في تعلُّم قُرابة ٩٠ ألف طالب في المدارس الرسميَّة والخاصة. أنهَكَ تفجير٤ آب/أغسطس ما تبقَّى من قُدرة اللبنانيين على الصمود. تُقدِّر الأمم المتحدة بأكثر من مليونيّ شخص عدد اللبنانيين الذين يحتاجون إلى مساعدة إغاثيَّة لتغطية احتياجاتهم الأساسية، بما في ذلك الوصول إلى الطعام والصحَّة والتعليم والمياه.

أما البُعدُ الجيوسياسي لتفجيرِ المرفإِ، فمُرتبطٌ، سببياً أو بالنتائج، بصراعِ المرافئ الدائر على الحوض الشرقي للمتوسط والقائم منذ زمن. في هذا الإطار، لا شكَّ في أنَّ تدميرِ المرفإِ يُشَكِّلُ خدمةً لا بل هدفاً مُحَقَّقاً للعدو الإسرائيلي الطامع بإبدالِ مرفإِ بيروت بمرفإِ حيفا كجسرٍ اقتصاديّ بين الشرق والغرب، إلى جانب أهدافٍ أخرى. في سياقٍ آخرٍ مُتَّصلٍ ومُرتَبطٍ بالبُعدَين الجيوسياسي والجيوستراتيجي، تُشعل إعادةُ بناءِ مرفإِ بيروت التنافس بين القوى والمحاور المُتصارعة والراغبة في الاستثمار في ما بعد لبنان. تُشكِّل المبادرة الصينيَّة الرَّامية إلى إحياء طريق الحرير القديمة والتي تمرُّ عبر مرفإِ حيفا المُحتلّ أحد أوجه هذا التنافس المُريب. يتقاطَع المُخَطَّط الصيني مع رغبة روسيا في تعزيز تَمَوضُعِها في هذه البقعة الساخنة والدَّسمة، من دون إغفالِ الاهتمام الإيراني باقتناص مَنفذٍ آمن ومُحَصَّن على المتوسط. في مقابل ذلك، تسعى الدول الغربيَّة، ولا سيَّما الاوروبية، ومن خلفها الولايات المتحدة، إلى الحفاظ على امتيازاتها عبر الدَّفع نحو حلولٍ تُبعِدُ التحوُّلات. يَدُلُّ تعدّد العروض من جهة، وصَمتُ الدولة اللبنانيَّة المتخبِّطة في أزماتها حيالها من جهة ثانية، على وجود لبنان في عين عاصفة التجاذب الإقليمي والدَولي. يُشبه مرفأُ بيروت المُهدَّم والمُعطَّل الدولة اللبنانية المنكوبة والمشلولة والفاقدة لعزيمة النهوض بانتظارِ كلمة سرٍّ قد تكون: “مغفورة لك خطاياك، قُم، احمل سريرك وامشِ”.

بناءً على ما تقدم يُمكننا القول أنَّ إعادة إعمارِ مرفإِ بيروت لا بُدَّ أن تكون مُرتبطةً ارتباطًا عُضويَّا واستراتيجيًّا بأسباب تفجيره. لذلك، وبافتراضِ تساوي العوامل الأخرى، وإذا كانت إعادة إعمار مرفإِ بيروت مُرتبطٌة بهويّة مَن سَيَبنيه ومَن وراءهم، فهذه الجريمة تستهدف وجه لبنان وهويَّته وتَموضُعَه التاريخيّ. يتماهى التفجير في أسبابه وأهدافه مع أسباب وأهداف الأزمة الاقتصادية في سابقتَين تُنذران بخلطِ أوراقٍ قد يغيِّر معالم لبنان ويدفعه إلى مزيدٍ من المجهول القاتم.

٤ آب/أغسطس، جرحٌ مفتوحٌ على جميع الاحِتمالات، لا تُدمِله الأيام وقد تَشفيه الحقيقة! رُبَّما …

  • البروفسور مارون خاطر هو أكاديمي لبناني وباحث في الشؤون الماليَّة والاقتصاديَّة. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @professorkhater
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازياً مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى