“كوميديا” دانتِه… وَحْيُ الريشة والإِزميل

بوتيتشِلّي: أَشهر رسم لِـدانتِه عبر التاريخ

هنري زغيب*

يُعزَى إِليه أَنه “أَبو اللُغة الإِيطالية” لأَنه “جَرُؤَ” على كتابة رائعتَيه الخالدتَين “الحياة الجديدة” و”الكوميديا الإِلهية” بِلَهجة توسكانا المَحْكية زمَنَ اللغةُ اللاتينيةُ الفُصحى في أَوْج عظمتها، تَصدُر بها مؤَلَّفات كبار الشعراء في القُرون الوُسطى. ولدى سؤَاله عن تلك “الجرأَة” كان يجيب: “المستقبل لِلُّغة المحكية. ستكون غدًا هي اللغةَ الفصحى”. وفعلًا: حين تشظَّت اللغةُ اللاتينية لاحقًا إِلى “لُغات” أُوروپية متعدِّدة، كانت لهجةُ توسكانا هي التي تَبَنَّتها إِيطاليا لغتها الحالية.

بعد 700 سنة على غيابه، ما زال نابضًا في ذاكرة العالم، وها إِيطالياهُ تستعدُّ للاحتفال بالذكرى السبعمئة لوفاته (عن 56 عامًا في 14 أَيلول/سپتمبر 1321). وبين ما يتهيَّأُ منذ اليوم: معرضٌ كبير في مدينته الأُمّ فلورنسا، يَضم أَشهر ما أَبدعتْه ريشاتُ كبار الفنانين من وحي رائعته “الكوميديا الإِلهية” التي خلقت تقاليدَ وتياراتٍ أَدبيةً وفنية، أَوحت أَعمالًا مُبدعة لنحاتين ورسامين وموسيقيين ومسرحيين من بلدان مختلفة في العالم.

رافاييل: “دانتِه مكلَّلًا بالغار” (متحف الڤاتيكان)

بعض الضوء

هو الإِيطاليُّ دانْتِه آلِّـيـغْـيِـيري (1265-1321): شاعر، كاتب، منظِّرٌ لُغَويٌّ واجتماعيٌّ وأَخلاقيٌّ، ومُحلِّلٌ سياسيّ. يسميه الإِيطاليون “الشاعر الأَكبر”. بين 1303 وقبَيل وفاته سنة 1321 كتبَ قصيدتَه الملحمية “الكوميديا”. لكن معاصره الشاعر جيوڤاني بوكاتشيو اقترح تسميتها “الكوميديا الإِلهية” فاشتهرت بهذا العنوان، وهي اليوم من فرائد الأَدب العالمي الخالد مدى جميع العصور.

وَسَمَها دانتِه بالبُعاد، بعد حادثة نَفْيِهِ من مدينته فلورنسا، فَنَسَجَها رحلةً افتراضيةً مثلَّثة من 100 نشيد في ثلاثة أَقسام: “الجحيم” (33 نشيدًا) “المطهر” (33 نشيدًا) “الفردوس أَو الجنَّة” (33 نشيدًا) ونشيد افتتاحي قبل فصل “الجحيم”.

دولاكروى: “مركَب دانتِه” (اللوڤر)

بريشاتهم

أَقدمُ رسم له وضعه سنة 1333 مواطنُه الفلورنسي جيوتُّو دي بوندوني (1267-1337). تَخيَّلهُ حاملًا كتاب “الكوميديا الإِلهية” في جداريةٍ لـ”كنيسة مريم المجدلية”، غطاها طلاءُ الكنيسة سنة 1570، لكن إِصلاحها سنة 1840 كشَف الجدارية فتمَّ ترميمُها بما أَمكن (اليوم لدى متحف بارغيلُّو في فلورنسا).

سنة 1495 وضع عبقريُّ النهضة الإِيطالية ساندرو بوتيتْشِلِّي (1445-1510) رسمًا لدانتِه هو اليومَ الأَبرزُ بين ما ينتشر له في تاريخ الفن، ووضع سنة 1490 لوحة “دانتِه وبياتريس” حبيبته التي رافقته إِلى الجحيم. وكان بوتيتْشِلِّي سنة 1485 استوحى من فصل “الجحيم” ملامح للوحته الرائعة “خارطة الجحيم”، فجاءَت بين أَبرز اللوحات في نهاية القرن الخامس عشر.

رودان: “باب الجحيم” (6 أَمتار في أَعلاه “المفكِّر”)

وكذلك رافايـيـل  (1483 – 1520) استوحى من “الكوميديا” لوحات خالدة، بينها (سنة 1505) رسمٌ لدانتِه مكلَّلًا بغار النجاح والخلود والعظمة، لعُمق ما كان الشاعر ضالعًا في شعبه ومبدعيه.

ومن “جحيم” دانتِه استوحى الرسام الفرنسي جان أُوغُست إِنْغْر (1780-1867) لوحة “پاولو وحبيبتُه فرنتشسكا” عمل عليها بين 1814 و1819 واضعًا لها سبع نسَخ، أَكملُها الموجودةُ اليوم لدى متحف الفنون الجميلة في مدينة أَنجيه (جنوب فرنسا) ويعتبرها نُقَّاد الفن في رأْس الأَعمال الخالدة من النهضة الفنية الأُوروپية.

دالي: “جحيم دانتِه” (واحدة من 100 مائية)

بين الريشة والإِزميل

ومن تلك القصيدة الملحمية استوحى الفرنسي أُوجين دولاكروَى (1798-1863) لوحتَه “مَركب دانتِه” (1822) هي اليوم بين روائع اللوڤر، تمثِّل دانتِه يَعبُر في مركبه نهر سْتيكْسْ وفوقه هالَةُ الشاعر ڤِرجيل، مثالِه الأَعلى في الشعر.

وهوذا الشاعر والرسام الإِنكليزي وليم بلايك (1757-1827) يستوحي سنة 1824 نحو 100 مائية من “الكوميديا”، معظمُها عن فصل “الجنة” معتبرًا فصلَي “المطهر” و”الجحيم” أَقل إِيحاءً للرسم من الأَول. وكان المرض بدأَ يُرهقه فلم يُكمل عملَه.

ويكون للإِزميل حضورُه: تناوله أُوغُست رودان (1840-1917) وأَطْلع سنة 1888″باب الجحيم” منحوتة بعلُوِّ ستة أَمتار جمعَ فيها 180 مشهدًا من “جحيم” دانتِه”، في أَعلاها رأْس “المفكر” (الشهير في أَعمال رودان) يرجِّح النقَّاد أَن يكون رأْس دانتِه ينظر من أَعلى إِلى شخصيات قصيدته في فصل “الجحيم”.

سنة 1965، احتفاءً بالذكرى 700 لولادة دانتِه، طلبَت الحكومة الإِيطالية من السوريالي الإِسپاني سلڤادور دالي (1904-1989) أَن يُنشئَ عملًا من وحي “الكوميديا الإِلهية”، فرسَم 100 مائية (34 لـ”الجحيم”، و33 لكلٍّ من “المطهر” و”الفردوس”) يعتبرها مؤَرخو الفن “أَهم أَعمال دالي على الإِطلاق لأَنه أَراد أَن يكون هو دانتِه الرسم فيعادل دانتِه الشعر في أَناشيده المئة”.

صورته منقوشة على قطعة النقد المعدنية

دانتِه بــ2 يورو

هكذا بسَطَ دانتِه خلودَه، عصرًا بعد عصر، وما زال وحيًا لكبار المكرَّسين في كل حقلٍ إِبداعي من الآداب والفنون، يستلهمون منه ومنها مواضيع لأَعمالهم البصرية والمشهدية.

وهكذا الأَوطان الحضارية تكرِّم مبدعيها، عناوينَها في التاريخ. وحين وافقَت إِيطاليا على دخول الاتحاد الأُوروپـي لم تَجد – بعد إِجماع استفتاءٍ شعبي – أَعظمَ من شاعرها الخالد دانتِه يمثِّلُها، فنَقشَت صورتَه على قطعة 2 يورو المعدنية، مأْخوذةً عن لوحة رسامها الخالد الآخر رافاييل.

يَمضي سياسيُّو الدول وحكَّامها، يَمضون عابرين في تاريخها، ويبقى وحدَهم مبدعُوها خالدين سُطُوعًا في ذاكرة الزمان.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر:  @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” – بيروت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى