من عفوية الارتجال كانت الكوميديا

واتُّو: المهرِّج والرفاق

هنري زغيب*

من أَقدم الظواهر المسرحية المؤَثِّرة بين القرنين السادس عشر والثامن عشر: “الكوميديا دِلْ آرتي” (Commedia dell’Arte all’improvviso) القائمة على الارتجال من دون نص جاهزٍ مُسْبَق مُهَيَّإٍ ومعَدٍّ للتقديم بعد التدرُّب عليه. انطلقَت من شماليّ إِيطاليا وتعمَّمت في أُوروپا بالشخصيات ذاتها (مثل آرلكان الحاذق والمهرّج پيارو)، والأَزياء ذاتها المبهرَجة المزركَشة، والمواضيع الخفيفة الضحَّاكة. ترتكز إِلى شخصيات تروح ترتجل مباشرةً على المسرح وفْق الجو العام والحدَث والمكان. وهي إِلى حدٍّ (ولو بعيدٍ، من حيثُ الارتجال الآني والظرفي والمكاني) قريبة من مسرح “الشانسونييه” في عصرنا. وبكونها مسرحًا جوَّالًا، تقترب من ظاهرة “شعراء التروبادور” الجوَّالين تحت شبابيك الصبايا. ومن حيث المسرح الجوال في القرى والدساكر والساحات العامة تذكِّرنا بها “ناس من ورق” الرحبانية.

لأَن الارتكاز فيها على الممثل والشخصية، نبتَت من “الكوميديا دِلْ آرتي” شخصيات تلازمَت لاحقًا في أَعمال مسرحيين وفنانين تشكيليين اتَّخذوا من شخصياتها مواضيعَ أَعمالهم.

أَبرز تلك الشخصيات، من الخدَم: آرلُكان (الدائم المرح والفرح والشراهة)، سكاراموش (الأَدهى من آرلكان)، پوليشينيل (ذو القناع)، ومِزْتان (الداهية ذو المقالب الساخرة، استلهمه موليار لاحقًا لشخصية ماسكاريل)، بريغيلَّا (صاحب النزْل، استلهمه موليار لشخصية سكاپان)، الخ…

ومن الشخصيات أَيضًا، الشيوخ (ومنهم “پنطلون” الذي يهوى كاساندر الصبية الشابة)، والجنود بأَزيائهم الضاحكة، والعاشقون والعاشقات وسواهم. وجميع الشخصيات في “الكوميديا دِلْ آرتي” وَرِعون إِجمالًا وتكرَّروا في أَعمال لاحقة صدرت في لوحاتٍ فرنسية، كما سنرى.

مانيه: السخرية من رئيس الجمهورية

واتُّو: تحية الختام

أَنطوان واتُّو (1684-1721) اشتهر برسم لوحات الأَعياد الفَرِحَة. تأَثَّر بشخصيات “الكوميديا” وارتجالها، فوضع لوحة لخمسة عشر منهم بأَزيائهم المسرحية في لحظة سعيدة: في وسطهم المهرِّج الساذج پيارو بثوبه الأَبيض، معه فلامينيا التي كان يهواها لكنها ترفضه، أَمامهم سائر أَعضاء الفرقة :سكاراموش، المهرِّج الثاني بالأَسوَد والأَصفر، إِلى اليسار مِزْتان يعزف على الغيتار، وآرلكان بالأَحمر والأَخضر. وتدل رزمة الزهر على أَقدامهم أَنهم يؤَدُّون تحية الختام عند انتهاء العرض.

استأْنس واتُّو كذلك بشخصيات أُخرى من مسرح “الكوميديا” فرسم پيارو واقفًا بثوبه الأَبيض ونِظْرةٍ حزينة، وراءه شخصيات نصفية: الطبيب على دابَّته، عاشقان، الكاپتن الاستغلالي الانتهازي، ومِزْتان المخرِّب عاشق الموسيقى، لكنه في هذه اللوحة حزين على ضياح حبيبته التي يدير ظهره لتمثالها.

دوغا: آرلكان وآرلكان

مانيه: للكاريكاتور السياسي

إِدوار مانيه (1832-1883) استخدم سخرية مسرح “الكوميديا” فرَسَمَ منه الخادم پولسينيلَّا، محنيَّ الظهر مضطربًا يبحث عن ضائع حاملًا العصا، مرتديًا زيَّه التقليديَّ بأَكمامه الفضفاضة والسروال الفضفاض. وهو في ملامح الرئيس الفرنسي پاتريك ماكماهون المنتخَب حديثًا للجمهورية الثالثة وقائد الثورة في كومونة پاريس 1871. وهي لوحة كاريكاتور سياسي، أَراد بها السخرية من الرئيس ونَشَرها في جريدة “لو تان”، لكن الپوليس صادر نُسَخ الجريدة من الأَسواق.

دوغا: آرلكان وآرلكان

إِدغار دوغا (1834-1917) انتخَب من “الكوميديا” شخصية آرلكان بالپاستِل. كان يحب أَن يحضر مسرحيات الأُوپرا في پاريس، فرسم لوحةً لآرلكان الكبير وآرلكان الصغير، وهو آتٍ ليضرب طالب القربى من خطيبته، ليفاجأُ بأَنَّ مَن يضربه هو أَخوه آرلكان الصغير. وفي أَقصى اللوحة رؤُوس ناس من المشاهدين.

سيزان: پيارو وآرلكان

سيزان: ابنُه في آرلكان

پول سيزانّ (1839-1906): بعدما دخلت شخصيات “الكوميديا” عمق الثقافة الأُوروپية تعمَّمت في الرسم. فها سيزانّ سنة 1888 يرسم ابنه پول في شخصية آرلكان، مع صديقه لويس غِيُّوم في زي آرلكان كذلك: بالأَبيض وجه پيارو التائه المتناقض مع وجه آرلكان الناحل. وفي لباسهما دليلُ مزاجهما المتناقض. ولسيزان لوحاتٌ أُخرى لآرلكان إِنما بالقناع دون الوجه.

پيكاسو: الموسيقيون الثلاثة

بيكاسو:  “أَنا آرلكان”

استخدم پيكاسو بعض شخصيات “الكوميديا”، خصوصًا في أَعماله الأُولى من فترة المرحلة الوردية، فرسم وجهه إِنما بلباس آرلكان في لوحة “الأَرنب الرشيق” (صدرت في مقالي “اللوحة ذاكرةُ المكان بين ڤـان غوخ وﭘـيكاسو” – الجزء الثاني، “النهار العربي” – الجمعة 15/1/2021)، ويظهر فيها بلباس آرلكان إِلى جانب صديقته جيرمين پيشو وموسيقيّ يعزف وراءَهما.

وفي فترة لاحقة، رسم سنة 1921 لوحة عنوانُها “الموسيقيون الثلاثة” يظهر فيها پيارو وآرلكان يعزفان الموسيقى ومعهما راهب. اللوحة بالأُسلوب التكعيبي، تظهر فيها وجوهُهم متداخلةً ببراعة حتى لتبدو كأَنها من فنِّ الكولاج.

هكذا تمدَّدَت ظاهرة “الكوميديا دلْ آرتي” إِرثًا إِلى سائر الفنون ومنها المسرح. على أَنني هنا اكتفيتُ بجولة رشيقة على الفن التشكيلي، عمَّن رسَم منها شخصياتها (واتو، دوغا)، أَو للسخرية الكاريكاتورية السياسية (مانيه)، أَو للرسم الذاتي (پيكاسو).

هو الفن العالي: يولد يومًا في لوحة أَو منحوتة أَو قصيدة أَو مقطوعة موسيقية، يمضي أَصحابها وتبقى أَعمالهم خالدةَ الحضور على مر العصور.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر:  @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” – بيروت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى