خطابُ بايدن عن سياسته الخارجية يُحَدِّد مسارَ انخراطٍ إيجابي

بقلم أسامة الشريف*

حدّد الرئيس الأميركي جو بايدن أسس سياسته الخارجية في أول ظهور له على المسرح العالمي في الأسبوع الفائت. في الوقت الذي يتراجع  بشكل فعّال عن سنواتٍ من نهج دونالد ترامب الانعزالي في مواجهة التحديات العالمية الحرجة، أعلن بايدن، وهو يتحدّث أمام اجتماعٍ افتراضي لمؤتمر ميونيخ للأمن، أن أميركا قد عادت كقائدة عالمية، مؤكّداً على أهمية التحالف عبر الأطلسي من خلال “الناتو”، وأهمية العمل مع الإتحاد الأوروبي والديموقراطيات الأخرى التي تشترك في القِيَم الأميركية.

لقد كانت رسالة إنسانية ومُتفائلة إلى حدّ كبير، حيث ركّز على التحديات العالمية المُشتركة مثل تغيّر المناخ، ووباء فيروس كورونا، والأزمة الإقتصادية العالمية، وحلّ النزاعات من خلال التعدّدية. كما أكد على دور الديبلوماسية في إنهاء الحروب والصراعات. وربما كان الأهم من ذلك أنه أعاد التأكيد على استعادة أميركا لمكانتها في المؤسسات الدولية مثل منظمة الصحة العالمية.

بدون أيّ ذكرٍ للإدارة السابقة، كان بايدن مُصمّماً على النأي بنفسه عن شعار ترامب “أميركا أولاً”؛ شعارٌ أبعد الولايات المتحدة عن بقية العالم وترك الحلف الأطلسي في حالةٍ من الفوضى. لقد ملأت روسيا الفراغ الذي تركته أميركا، وخصوصاً في الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية. يبدو أن التزامه بالعمل مع الديموقراطيات الأخرى التي تتشارك مع الولايات المتحدة في القيم يُمثّل حجر الزاوية في السياسة الخارجية للإدارة الجديدة. إنها رسالةٌ تؤكّد على أهمية حقوق الناس والإلتزام بسيادة القانون. وبينما شدّد بايدن على الحاجة إلى الرد على الإنتهاكات الاقتصادية للحكومة الصينية والإكراه الذي يُقوّض أسس النظام الاقتصادي الدولي، فقد أدرك أن الولايات المتحدة وشركاءها يرون الصين على أنها تهديدٌ جيوسياسي يجب معالجته. هذا الموقف لا يختلف عن موقف الإدارة السابقة.

لكن على عكس سلفه، لم يتردّد بايدن في انتقاد روسيا وجهودها لإضعاف المشروع الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. وقال إن (الرئيس فلاديمير) بوتين يُريد تقويض الوحدة عبر الأطلسي لأنه من الأسهل على الكرملين أن يُمارس التنمّر على الدول الفردية ويُهدّدها أكثر من التفاوض مع مجتمع عبر الأطلسي قوي ومُوَحَّد بشكل وثيق.

وفي ما يتعلق بالصراعات الخارجية، أشار بايدن إلى أوكرانيا وأفغانستان والعراق وإيران. وبالنسبة إلى الأخيرة، أعلن أن الولايات المتحدة مُستعدّة لإعادة الانخراط في مفاوضات مع مجموعة 5 + 1 بشأن برنامج إيران النووي، على أن تتناول أيضاً أنشطة إيران المُزعزِعة للإستقرار في جميع أنحاء الشرق الأوسط.

ما يهم هنا هو أن الولايات المتحدة تتولى مرة أخرى دورها القيادي كقوة عالمية بينما تتبنّى التعدّدية. هذا أمرٌ مُهم لأن العالم يكافح مع الآثار المُدمّرة لوباء كورونا وتقلّص وانكماش الإقتصاد العالمي. من المهم أن بايدن تعهّد بمبلغ 4 مليارات دولار لدعم برنامج الوصول العالمي للقاحات كوفيد-19 التابع لمنظمة الصحة العالمية (كوفاكس) لتمكين البلدان الفقيرة من تلقّي اللقاحات.

ومهمٌّ جداً أيضاً بأن الولايات المتحدة ستمنح الديبلوماسية فرصةً لحلِّ النزاعات العالمية، وأن المشاركة ستكون من خلال المؤسسات الدولية؛ الملف النووي الايراني مثالٌ واضح.

ولكن عندما يتعلق الأمر بالشرق الأوسط، يجب على الرئيس بايدن وفريقه الإعتراف بأن أكثر من 20 عاماً من التدخّل العسكري لم يفشل فقط في تحقيق السلام والاستقرار، بل أدّى إلى تفاقم مشاكل المنطقة. في حين يعتقد بعض المُحلّلين أن بايدن سوف يتبنّى المحور الرئيس لشعار آسيا في سنوات أوباما؛ تاركاً الشرق الأوسط يدافع عن نفسه، فإن آخرين يُخالفون هذا الرأي.

إن الأمن العالمي غير قابل للتجزئة، وقد تردّدت أصداء مآزق المنطقة في جميع أنحاء العالم في شكل لاجئين نازحين، وموجاتٍ من الهجرة التي اجتاحت أوروبا من الشرق الأوسط، والإرهابيين المحليين، والتحوّلات الجيوسياسية التي سمحت لدولٍ مثل تركيا وإيران وروسيا بتمديد نفوذها خارج حدودها.

لا يمكن معالجة أنشطة إيران المُزعزعة للإستقرار من دون الخوض في الفروق الدقيقة للحرب الأهلية السورية، وعدم قدرة العراق على تخليص نفسه من الإنقسامات الطائفية، والإنهيار الوشيك للبنان، والكارثة الإنسانية المُروِّعة في اليمن.

في حين أن الولايات المتحدة اليوم أقل اعتماداً على نفط الشرق الأوسط، فإن العديد من شركائها في أوروبا وآسيا ليسوا كذلك. حتى عندما يُعلن بايدن أن أميركا ستلتزم تعزيز القيم الديموقراطية، فلا يُمكنه تجاهل نضال المنطقة ومقاومتها لتأييد مثل هذه القِيَم. ستستمر الولايات المتحدة في قيادة تحالف دولي وإقليمي لمحاربة “داعش” والجماعات الإرهابية الأخرى، لكن لا يمكنها القيام بذلك إلّا من خلال إشراك دول المنطقة.

يجب أن تتجاوز روابط أميركا بالمنطقة الحدود الضيّقة للشراكات الأمنية والعسكرية. يجب أن تسعى بنشاط إلى تهدئة الحروب بالوكالة في المنطقة وحلّ صراعاتها المُستَوطِنة، وفي مقدمتها قضية إسرائيل-فلسطين التي استقطبت المنطقة لفترة طويلة.

قد لا يتمكّن بايدن من تحقيق كل هذه الأمور في السنوات الأربع المقبلة، لكن يمكنه توجيه السياسة الأميركية نحو تحقيق هذه الأهداف بما يتماشى مع خطابه الإفتراضي في ميونيخ. الحقيقة هي أن هناك حاجة ماسة إلى قيادة الولايات المتحدة في هذه الأوقات الحرجة لرسم خارطة طريق نحو إنهاء الكثير من الصراعات الرهيبة في المنطقة.

  • أسامة الشريف هو صحافي ومُعلق سياسي مقيم في عمّان، الأردن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @OsamaAlSharif3

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى