بعدما انتصر في الحرب السورية، الأسد يغرَقُ في مُستَنقعٍ اقتصاديٍّ خطير!

بعد عقد من الحرب، أصبح التهديد الأكبر الآن للرئيس بشار الأسد يتمثّل في الأزمة الاقتصادية الخطيرة التي تعيشها سوريا. والمُقلق هنا أنه في اجتماع أخير، لم تكن لديه حلولٌ ملموسة لمحنةِ بلاده الشديدة.

هالة الجرف: تكلّمت فسُجِنَت

دمشق – محمد الحلبي

في لقاءٍ خاص مع صحافيين مُوالين للحكومة، سُئل الرئيس بشار الأسد عن الانهيار الاقتصادي في سوريا: من إنهيار العملة الذي أضرّ بالرواتب، والإرتفاع الهائل في أسعار السلع الأساسية، إلى النقص المُزمِن في الوقود والخبز. أجاب: “أعلم … أعلم”، حسب شخصين على دراية بالمناقشة. لكنه لم يُقدّم خطوات ملموسة لوقف الأزمة بخلاف طرح الفكرة التالية: يجب على القنوات التلفزيونية إلغاء عروض الطهي حتى لا تبدو أنها تسخر من السوريين بصورِ طعامٍ بعيد المنال.

مع اقتراب الذكرى السنوية العاشرة للحرب الأهلية في سوريا، فإن التهديدات المباشرة للأسد ليست الفصائل المُتمرّدة والقوى الأجنبية التي لا تزال تسيطر على مساحات شاسعة من البلاد، بل الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي أعاقت إعادة إعمار المدن المُدَمَّرة، وفقّرت السكان، وتركت عدداً مُتزايداً من السوريين يكافحون للحصول على ما يكفي من الغذاء.

اللقاء الخاص مع الصحافيين السوريين في الشهر الفائت، والذي لم يتم الإبلاغ عنه من قبل، قدّم نظرة نادرة غير مألوفة لقائدٍ بدا مُنفَصلاً عن المخاوف الحقيقية التي تُزعج شعبه وعاجزاً عن فعل أي شيء حيالها. المعلومات التي حصلت عليها “أسواق العرب” عن المناقشة أتت من شخص حصل عليها من صحافيين كانوا حاضرين، وتم التأكد من التفاصيل مباشرة من قبل أحد الحضور.

حتى في حديثه على انفراد، ظل الأسد مُتمَسّكاً بالتفاهات التي تُميّز خطاباته العامة. كان يرتدي بدلة سوداء ويتحدّث كأستاذ حيث ألقى باللوم على مجموعة من القوى في ويلات سوريا: “وحشية” الرأسمالية العالمية، و”غسيل المخ” من قبل وسائل التواصل الإجتماعي و “النيوليبرالية” غير المُحدّدة التي كانت تُقوّض قِيَم البلاد.

وخوفاً من إثارة أسئلة مُحرِجة من الحضور، أكّد للصحافيين أن سوريا لن تصنع السلام مع إسرائيل أو تُقنّن زواج المثليين.

هذه ليست من القضايا التي تُقلق معظم السوريين في هذه الأيام.

الإقتصاد السوري أسوأ من أي وقت مضى منذ بدء الحرب في العام 2011. فقد وصلت الليرة السورية هذا الشهر إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق مقابل الدولار في السوق السوداء، ما أدى إلى انخفاض قيمة الرواتب وارتفاع تكلفة الواردات. وزادت أسعار المواد الغذائية أكثر من الضعف في العام الفائت. وقد حذّر برنامج الغذاء العالمي هذا الشهر من أن 60٪ من السوريين، أو 12.4 مليون شخص، مُعرّضون لخطر الجوع، وهو أعلى رقم تم تسجيله على الإطلاق.

يُكرّس معظم السوريين الآن أيامهم لإيجاد الوقود لطهي الطعام وتدفئة منازلهم، والوقوف في طوابير طويلة للحصول على الخبز. لكن انقطاع التيار الكهربائي مستمر، حيث يحصل بعض المناطق على بضع ساعات فقط من الكهرباء في اليوم، وهو ما يكفي بالكاد للناس لشحن هواتفهم المحمولة.

النساء اليائسات يبعن شعرهنّ لإطعام أسرهنّ

قالت أمٌ لثلاثة أطفال أخيراً في صالون لتصفيف الشعر بالقرب من دمشق، شريطة عدم الكشف عن هويتها، مثل أخريات وآخرين تمّت مقابلتهم (ن) في هذا المقال، خوفاً من الاعتقال: “إضطررت إلى بيع شعري أو جسدي”.

وروت بأن زوجها، وهو نجار، كان مريضاً ويعمل بشكل مُتقطّع، وكانت بحاجة إلى  “زيت الكاز” (الكيروسين) لتدفئة المنزل ومعاطف شتوية لأطفالها. وبمبلغ 55 دولاراً التي حصلت عليها مقابل شعرها، والذي سيُستخدَم في صنع الشعر المُستعار، إشترت غالونين من الكاز وملابس لأطفالها ودجاجة مشويّة، وهي المرة الأولى التي تتذوّقها أسرتها في ثلاثة أشهر. وقد بكت من العار لمدة يومين بعد ذلك.

إن انخفاض العملة يعني أن الأطباء يكسبون الآن ما يعادل أقل من 50 دولاراً في الشهر. وقال نقيب أطباء سوريا، الدكتور كمال عامر، أخيراً، إن الكثيرين يسافرون إلى الخارج للعمل خصوصاً إلى السودان والصومال، وهما من بين الدول النادرة التي تسمح بدخولٍ سهل للسوريين، ولكن لا يتمتّع أيٌّ منهما باقتصادٍ قوي. المهنيون الآخرون يكسبون أقل بكثير.

قال موسيقي من دمشق: “إن همَّ الناس، أكثر من أي شيء آخر، هو الطعام والوقود. كل شيء باهظ الثمن بشكل غير عادي والناس خائفون من فتح أفواههم وقول أي كلمة”.

الواقع أن الأسباب مُتعدّدة ومُتداخلة: أضرارٌ هائلة ونزوحٌ كبير من الحرب؛ عقوباتٌ غربية واسعة النطاق على نظام الأسد وشركائه؛ إنهيارٌ مصرفي في لبنان المجاور، حيث احتفظ الأثرياء السوريون بأموالهم؛ وعمليات الإغلاق لمكافحة فيروس كورونا.

ليس لدى الأسد مَخرَجٌ سهل. يقع معظم حقول النفط في البلاد وجزءٌ كبير من الأراضي الزراعية في الشمال الشرقي الذي تسيطر عليه القوات التي يقودها الأكراد بدعم من الولايات المتحدة.

إستثمر أقرب حلفاء سوريا، روسيا وإيران، بشكل كبير في مساعدة الأسد على الإنتصار في الحرب، لكن كلاهما يُعاني من مشاكل اقتصادية خاصة بهما ولا يُمكنهما سوى تقديم القليل في هذا المجال. مع ذلك، واصلت روسيا تقديم مساعدات عسكرية كبيرة لدمشق ولكن المساعدات الإنسانية كانت محدودة.

قال السفير الروسي في سوريا ألكسندر إيفيموف لوكالة الأنباء الروسية “ريا نوفوستي” هذا الشهر‘ إن “الوضع الاجتماعي والاقتصادي في سوريا اليوم صعبٌ للغاية”. لكنه أضاف بأن إرسال الدعم كان “صعباً للغاية” لأن روسيا أيضاً كانت تُعاني من الوباء والعقوبات الغربية.

 

في الأسبوع الفائت، بعد أن اعتُقِلت شابة إسرائيلية كانت تتجوّل في سوريا، إستخدمتها الحكومة السورية كورقة مساومة للحصول على إطلاق سراح راعِيَين سوريين و60 ألف جرعة من لقاح فيروس كورونا، دفعت إسرائيل مقابلها لروسيا 1.2 مليون دولار.

على الرغم من هذه المشاكل، لا يزال الأسد مُسيطراً. بعد ما يقرب من عقدٍ من القتال، وصلت الحرب إلى طريق مسدود، مع وجود حوالي ثلثي البلاد ومعظم سكانها اسمياً تحت سلطة حكومة الأسد.

 

وهو الآن يتطلع إلى الأمام، على أمل أن يؤدي فوزه في انتخاباتٍ رئاسية زائفة هذا الربيع إلى إقناع خصومه بالتخلّي عن آمالهم في تغيير النظام والقبول به كزعيم سوريا الأوحد في المستقبل. ولم يردّ مكتبه على طلبٍ للتعليق على هذا المقال، بما في ذلك أسئلة حول لقائه بالصحافيين.

غطاء مُحكَم لأي تلميح للمعارضة

في الشهر الفائت، نشرت هالة الجرف، مذيعة أخبار سابقة في التلفزيون الرسمي السوري، اقتباساً من جان جاك روسو على حسابها على فايسبوك رداً على سؤال “ما هو الوطن؟”، وكتبت: “الوطن هو ألّا يبلغ مواطن من الثراء ما يجعله قادراً على شراء مُواطِنٍ آخر، وألّا يبلغ مُواطنٌ من الفقر ما يجعله مُضطراً على بيع نفسه”. بع ساعات تم القبض عليها لمخالفتها قوانين “الجرائم الإلكترونية” في البلاد.

كانت هناك لحظة من التوتر في اللقاء الخاص مع الصحافيين عندما سأل أحدهم كيف سيتعامل الرئيس مع الغضب بين مؤيديه بسبب الاقتصاد السيئ، فقاطعه مستشار رئاسي بغضب، لكن الأسد سمح للرجل التحدث ثم ما لبث أن أجاب بأنه على علم بآلام الناس. إلّا أنه قدم تأكيدات غامضة فقط بأن الوضع سوف يتحسّن، من دون أن يُقدّم خططاً واضحة لمساعدته على تحقيق ذلك.

غالباً ما تظهر زوجة الأسد الأنيقة المولودة في بريطانيا، أسماء، علناً في إشارة إلى أن الحياة في سوريا تسير بشكل طبيعي.

مُخاطبةً أخيراً المشاركين في مسابقة وطنية للعلوم، للترويج للتعليم عبر الإنترنت، قائلة إنه “يوفر الوقت والجهد والمال، فضلاً عن تحقيق العدالة” ويمكنه إتاحة المعلومات “لجميع الطلاب في جميع المناطق”، وفقاً لخدمة الأخبار الحكومية. ولم يتم التطرق إلى كيفية دراسة الطلاب عبر الإنترنت نظراً إلى انقطاع التيار الكهربائي.

ليس بعيداً من قصر الأسد، يكسب والدٌ لتسعة أطفال ما يعادل 5 دولارات في اليوم من بيع الخضار، التي يعرضها على عربة بسيطة في صناديق مليئة بالباذنجان والبطاطس والتفاح، وفرها لعائلته حتى خلال أسوأ سنوات الحرب.

لكنه قال إنه خلال العام الفائت، إرتفعت أسعار المواد الغذائية بسرعة كبيرة لدرجة أنه قام بتنويع عروضه لتغطية نفقاته. لقد صنع دبس الرمان والباذنجان المُخلّل، لكنه توقف عندما أصبح من الصعب جداً الحصول على غاز للطهي.

إنه غير قادر على تحمّل أعباء الرسوم المدرسية، لذلك انسحب اثنان من أبنائه من مقاعد الدراسة. وهاجر آخر إلى ألمانيا وأرسل إلى الوطن ما يكفي من المال لدفع الإيجار. ومع ذلك، يقضي ابنٌ آخر ثلاث إلى خمس ساعات يومياً في الإنتظار في طابورٍ للحصول على نصيب الأسرة من الخبز المُسطَّح المدعوم من الحكومة. وقال إنه حتى الكماليات البسيطة أصبحت نادرة، مضيفاً: “قبل أسابيع قليلة اشتريت دجاجة. أعدّت زوجتي منها ثلاث وجبات”.

الطبقة المتوسطة إنضمّت إلى الفقراء

قال وسيم، الذي يعمل في وزارة حكومية، إنه وزوجته كانت رواتبهما تسمح لأسرتهما بسهولة تحمّل شراء الخبز والوقود وغاز الطهي والملابس، حتى قبل بضع سنوات عندما سيطر جهاديو “الدولة الإسلامية” على مساحة من البلاد، وكانت المعارك لا تزال مستعرة. لكن مع انهيار العملة، الذي بدأ أواخر العام 2019، تضاءل دخلهما، ما أجبرهما على تناول طعامٍ أبسط وشراء ملابس مُستَعملة. وقد افتتح أخيراً متجراً للعطور حيث يديره بعدما أنهى وظيفته اليومية لزيادة دخله. وهذا يترك له القليل من الوقت للإنتظار في طابورٍ للحصول على الخبز، لذلك يشتري الخبز غير المدعوم والذي يكون سعره أعلى بستة أضعاف مقابل 35 سنتاً لكيسٍ من ستة أرغفة.

لقد تركته نضالاته ومعاناته مع القليل من الصبر لتحمّل تركيز الحكومة على القضايا السياسية التي لا تؤثّر في حياته اليومية، مثل النضال ضد إسرائيل.

وقال: “نسمع يومياً تصريحات من الرئيس بشار الأسد وحكومته حول المقاومة والسيادة الوطنية. لكن الحكومة أغلقت آذانها وعينيها ولا تُبدي أي اهتمام بظروفنا المعيشية”.

  • محمد الحلبي هو مراسل “أسواق العرب” في دمشق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى