خُلود الكونغرس بكُنُوزه الفنية لا بسياسيـيه

كريستي: “التوقيع على الدستور”

 

صالة التماثيل التذكارية

بقلم هنري زغيب*

حين هُرع رجالُ الأَمن بالمئات، نهار الأَربعاء في السادس من هذا الشهر، ثم عناصرُ الحرس الوطني، حاصروا مبنى الكاپـيتول في واشنطن، لم يُهرَعوا فقط إِلى القاعة الكبرى ليُنقذوا أَعضاء الكونغرس من هجوم أَنصار الترامـپ المهزوم، بل الأَهم لكي يحموا ثرواتٍ في المبنى عمْرُها من مجد الأُمة الأَميركية: لوحات زيتية عملاقة وتماثيل برونزية ورخامية يروي مجموعُها مراحل من نضال الشعب الأَميركي لرفع العبودية وبسْط نظام ديمقراطي تعتزُّ الولايات المتحدة بأَنها نموذجُه بين الدول. يومئذ التقط كِنْتْ نيشيمورا (مُصوِّر “لوس أَنجلس تايمز”) صورةً لجنود أَميركيين مستلقين تحت إِحدى اللوحات الكبيرة في الرواق الرئيس، حمايةً تلك اللوحةَ من رعاع الهاجمين.

بروميدي: “صعود واشنطن إِلى السماء”

في التعريف القديم: مبنى الكاپـيتول يعني هيكل جوپـيتر على تلة روما. وفي التعريف المعاصر: هو مبنى الكونغرس (الـپـرلمان) الأَميركي على تلَّة واشنطن العاصمة.

الملايين الذين في كل العالم شاهدوا الهجوم في ساحة الكاپـيتول وفي بعض أَروقته، لم يكن يومذاك وقتُ وسائل الإِعلام لإِدخالهم  إِلى هذا المبنى التاريخي (تم تدشينُه سنة 1800) ورؤْية 300 تحفة أَميركية هي ثروةُ كنوزٍ فنية رائعة تؤَرِّخ مراحل متعاقبة من تاريخ البلاد.

فماذا عن بعض هذه الروائع؟

تشاپـمان: “تنصير پـوكاهونتاس”

الدُستور شرفُ الأُمّة

من أَبرز الأَعمال في المبنى: لوحةُ “التوقيع على الدستور”، رسمها سنة 1940 الأَميركي هاوُرد تشاندلر كريستي (1872 – 1952) بتكليف من إِدارة الكونغرس، احتفاءً بذكرى 150 سنة على هذا الحدث التاريخي الذي يجسِّد شرف الأُمَّة، وهو جرى صباحَ الإِثنين 17 أَيلول/سـپـتمبر 1787 على منبر “قاعة الاستقلال” في مدينة فيلادلفيا (ولاية پـنسيلفانيا).

لوتز: “حملة اكتشاف الغرب الأَميركي”

وتروح الأَعمال الفنية في المبنى تتسلسل شاهدةً على تاريخ الولايات المتحدة منذ أَوائل سنوات اكتشافها، وما كان للوافدين إِليها في غروب القرن الخامس عشر من أَحداث مع السكان الأَصليين (الهنود).

إِفريز التاريخ الأَميركي

من أَهمِّ هذه الأَعمال حجمًا وقيمةً: جدارية كبرى في السقف تمثِّل جورج واشنطن (1732 – 1799) واضع الدستور الأَميركي وأَول رئيس على الولايات المتحدة (1789 – 1797). عنوان الجدارية “صعود واشنطن إِلى السماء”، وهي بين أَكبر ما في مبنى الكاپـيتول من لوحات، توحي بأُسلوب ميكالانجلو أَو رافاييل (من عصر النهضة الإِيطالية) لكنها من نتاج القرن التاسع عشر: تعلو عن الأَرض نحو 55 مترًا، وتتمدَّد وسْعَ القُبّة على نحو 440 مترًا مربَّعًا، يبدو فيها جورج واشنطن بين شخصَين يرمزان إِلى الحرية والنصر، وحولهم 13 شخصًا يرمزون إِلى أَول 13 ولاية أَميركية. أَبدعَ هذه الجداريةَ سنة 1865 الرسامُ الأَميركي الإِيطالي الأَصل كونستانتينو بروميدي (روما 1805 – واشنطن 1880) وله أَكثر من جدارية في مبنى الكاپـيتول.

كوكْس: “بداية الطيران”

من الأَسر إِلى النصر

في لوحة أُخرى: “تنصير پـوكاهونتاس”، وهي أَميرةُ قبيلة پـوهاتان (من سكَّان أَميركا الأَصليين)، أَسَرها المستعمرون الإِنكليز رهينةً إِبَّان سيطرتهم على ولاية ﭬِـرجينيا سنة 1613. فرضوا عليها لإِطلاقها أَن تتنصَّر فقبِلت واقتَبَلت العماد. تَوَلَّه بها شابٌّ ثريٌّ من مُزارعي التبغ اسمه جون رولْف (18 سنة) فتزوَّجها سنة 1614. تناول قصتَها رسامون كُثر ظهرت في لوحاتهم، بينها هذه اللوحة التي كلَّفت  وضعَها إِدارةُ الكونغرس سنة 1837 الرسام الأَميركي جون غادْسْبي تشاپـمان (1808 – 1889) فعملَ عليها ثلاث سنوات متواصلة حتى أَنجزها سنة 1840 واتخذت مكانها في صدر قاعة القُبة المستديرة.

جنود مستلقون تحت اللوحة لحراستها

فوق الدرج الغربيّ من الكاپـيتول لوحة “حملة اكتشاف الغرب الأَميركي” وضَعها سنة 1862 الرسام الأَميركي الأَلماني الأَصل إِيمانويل لوتز (1816 – 1868) بقياس 6 x 10م.، وتبدو فيها نساء وأَولاد ورجال بقبعات صوفية سميكة، وعرباتُ خيل مقفلةٌ تَجرُّها أَحصنة وثيران، والجُموعُ متِّجهةٌ غربًا صوب النصر في تلك الحملة. على أَطراف اللوحة صُوَر أَعلامٍ ومراحل من تاريخ اكتشاف أَميركا.

بروميدي: “وُصول كولومبُس إِلى أَميركا”

الإِفريز

طوال نحو قرن كامل (1859 – 1953)، تعاقَب رسامون على ملْءِ الإِفريز الدائري العالي في القاعة الكبرى، بلوحات تَروي تاريخَ أَميركا كرونولوجيًّا، منها لوحةُ بروميدي (1860) “وصول كريستوف كولومبُس إِلى أَرض أَميركا سنة 1492” ولوحة “ولادة الطيران سنة 1903” وضعها سنة 1953 الأَميركي أَلِن كوكس (1896 – 1982)، الذي كلَّفته إِدارةُ الكاپيتول سنة 1952 رسْمَ الإِفريز الذي كان بروميدي بدأَ يعمل عليه لكنه توفي سنة 1880 وتوقَّف من يومها العمل على إِكمال رُسوم الإِفريز.

مبنى الكابيتول القديم على تلَّة روما

هكذا تتأَلَّقُ الأَعمال الفنية (300 لوحة وتمثال) ساطعةَ الحضور في أَروقة الكاپـيتول وصالاته وممراته وقُبَّته، مؤَرِّخةً مجد الأُمَّة الأَميركية بكنوز الفن لا برجال السياسة. وبعض من تلك الأَعمال معلَّقةٌ في قاعة الاجتماعات الوسيعة، فوق مقاعد النواب والشيوخ، كأَنها نوافذ على تاريخ أُمَّتهم تذكِّرهم يوميًّا بأَزهى لحظات انتصاراتها، وتلْفتُهم إِلى أَنهم مسؤُولون عن الحفاظ على تاريخ بلادهم ونهضته. فرغم ما شابَ ذاك التاريخ من ظُلامات، ليس في صالات الكاپـيتول من ظَلامٍ بل يشرق الفن بشمس دائمة على تاريخ شعوب متفرِّقة توافدت إِلى بلاد واسعة، فتجمَّعت وتحاربت ثم توحَّدت في ولايات متحدة عمَّرت مجد الأُمة الأَميركية ورسَّخت فيها الديمقراطية منذ نيِّفٍ وقرنين حتى اليوم.

 

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر:  @HenriZoghaib
  • يصدر هذا المقال في “أَسواق العرب” تَوَازيًا مع صُدُوره في موقع “النهار العربي” من جريدة “النهار” – بيروت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى