مصر: قمعُ النظامِ الذي لا يَرحَم!

بطريقةٍ غير مناسبة وغير إنسانية للتعامل مع أي اضطرابات اجتماعية، يستخدم نظام عبد الفتاح السيسي القمع الجماعي لمنع التغيير في مصر.

الجيش المصري: وسع دائرة إهتماماته الإقتصادية

 

بقلم ماجد مندور*

أفرجت النيابة المصرية عن ثلاثة أشخاص ينتمون إلى المبادرة المصرية للحقوق الشخصية في 4 كانون الأول (ديسمبر) 2020. وكان الثلاثة الذين يدافعون عن حقوق الإنسان إعتُقلا في 15 تشرين الثااني (نوفمبر) الفائت بتُهَمٍ مُلَفَّقة بالإنضمام إلى جماعة إرهابية. جاء الإفراج، وهو حدثٌ نادر في نظام السيسي، بعد ضجّةٍ دولية. وقد تضمّن جزءٌ من الحملة الدولية التي أعقبت ذلك قراراً غير مُلزِم من البرلمان الأوروبي، يدعو الدول الأعضاء إلى فرض “إجراءات تقييدية” على كبار أعضاء النظام المصري. وبالمثل، في 23 كانون الأول (ديسمبر)، علّق الكونغرس الأميركي 300 مليون دولار، من مجموع المساعدات السنوية الممنوحة للنظام والتي تبلغ 1.3 مليار دولار. وكان الإفراج عن الأموال مرهوناً بإدخال تحسينات على حقوق الإنسان.

إن حملة الضغط الدولية الجديدة هذه، والإفراج الأخير عن أعضاء المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، وتوقّع أن تكون الإدارة الأميركية الجديدة أكثر صراحةً وجرأة في كلامها ومواقفها بشأن انتهاكات حقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم، قد ولّدت الأمل في أن نظام السيسي قد يُقلّل من حملة القمع الجماعي. ومع ذلك، فإن هذا الوضع يتجاهل الظروف الهيكلية التي تجعل النظام غير مناسب أو مُلائم للتعامل مع الاضطرابات الاجتماعية، مما يجعل القمع – تقريباً – أمراً لا مفرّ منه. وبالفعل، فإن القمع العنيف الذي يمارسه النظام على المعارضة، ورفضه تقاسم السلطة مع المدنيين في شكل حزب حاكم أو جهة سياسية ذات مصداقية، قد تركه عرضة للغضب الشعبي – الذي لا يمكنه الردّ عليه إلا بالقمع.

منذ انقلاب 2013، شرع الجيش في سعيٍّ أحادي الأفق لتوطيد سلطته، وعسكرة النظام السياسي المصري. وتنطوي هذه الاستراتيجية على استنزاف مستمر للمعارضة سواء على شكل أحزاب سياسية أو فاعلين في المجتمع المدني أو أفراد، من خلال القمع ومشاركة الخيار. كان لهذا أثرٌ غير مقصود ترك النظام غير مُجَهَّزٍ ومُعرَّضاً للإضطرابات الاجتماعية، وفي الواقع، أقل استقراراً بكثير مما يبدو. الأمثلة كثيرة على مدى السنوات القليلة الماضية. في 15 شباط (فبراير) 2018، تم القبض على عبد المنعم أبو الفتوح، رئيس حزب مصر القوية – وهو حزبٌ مُعارض ذو ميول إسلامية – بتُهَمٍ إرهابية مُلَفَّقة. كما اعتُقِل نائب رئيس الحزب، محمد قصّاص، في 8 شباط (فبراير) 2018 بتُهَمٍ مُماثلة. ومن الأمثلة الأخرى اعتقال عدد من الشخصيات العامة المعروفة في 25  حزيران (يونيو) 2018 ، مثل زياد العليمي وحسام مؤنس وهشام فؤاد وعمر الشنيطي. لقد كانوا جزءاً من “تحالف الأمل”، وهو ائتلافٌ سياسي خطّط لخوض الانتخابات البرلمانية في العام 2020.

جاءت لحظة حاسمة خلال حملة القمع هذه في موجة الإعتقالات التي استمرّت أسبوعين في أيلول (سبتمبر) 2019. وبلغت ذروتها في 25 أيلول (سبتمبر)، حيث اعتقل النظام ما يقدر بـ2,300 شخص، بمَن فيهم خالد داود، الرئيس السابق لحزب الدستور الليبرالي والمتحدث باسمه عند اعتقاله. واليوم، لا تزال كل هذه الشخصيات السياسية في الحبس الاحتياطي. ثم تمّ استقطاب كتل كبيرة من المعارضة من قبل النظام، قبل الانتخابات البرلمانية في العام 2020، عندما وُضِعَت القائمة الإنتخابية “من أجل مصر”. وخُصِّصَت حصة الأسد من مقاعد القائمة لحزب “مستقبل وطن”، الذي تردد أن له صلة وثيقة بالأجهزة الأمنية. ووُزِّعَت المقاعد المتبقّية على أحد عشر حزباً بينها عدد من أحزاب المعارضة. ومع ذلك، فإن القائمة الانتخابية المُختارة التي يرعاها النظام تُهيمن على البرلمان الجديد.

إن الإضعاف المُتعَمَّد للمعارضة من خلال القمع والمشاركة في الخيار قد يؤدي إلى إحكام قبضة النظام على السلطة. ومع ذلك، فإنه يُضعف قدرته على توسيع قاعدة دعمه، وفي النهاية، على امتصاص السخط الشعبي. إذا كانت الأحزاب الإصلاحية غير قادرة على بناء قاعدة شعبية للدعم وكانت مُشَتّتة باستمرار، فلن تكون قادرة على التعبير عن المطالب الشعبية التي يُمكن للنظام بعد ذلك التفاوض عليها. بعبارة أخرى، في حالة الاضطرابات الإجتماعية الواسعة الإنتشار، لن تكون هناك قوة سياسية مُنَظَّمة للتفاوض معها أو لكي تكون كبش فداء – ما يجعل القمع هو الرد الوحيد المُمكن. ويُعزّز القمع الشديد لجماعة “الإخوان المسلمين”، وتصنيفها منظمة إرهابية، من هذا الاتجاه. لعبت المعارضة الإصلاحية دوراً مُهماً في إدارة الاضطرابات الاجتماعية في السنوات الأخيرة. أولاً، الدور الحاسم الذي لعبته جماعة الإخوان في استقرار النظام بعد احتجاجات 2011 الجماهيرية، من خلال مشاركتها في العملية الانتخابية، وموقفها المحافظ خلال الفترة الإنتقالية الأولى. مثالٌ آخر هو الدور المهم الذي لعبته الجماعات الدينية، مثل حزب النور السلفي، وعلى الأخص الجماعات العلمانية، في إضفاء الشرعية على انقلاب 2013 وإدارة الاضطرابات اللاحقة. وشمل ذلك مشاركة شخصيات يسارية وشعبية بارزة في أول حكومة بعد الانقلاب مثل الناشطَين العُماليين كمال أبو عيطة والشخصية الليبرالية زياد بهاء الدين.

أدّى تحييد هؤلاء القادة وتركيز السلطة في أيدي المؤسسة الأمنية إلى القضاء على أي فاعلين مدنيين أقوياء، أو دينيين أو غيرهم. على الرغم من أن البرلمان يسيطر عليه حلفاء مدنيون للنظام، لا سيما من خلال قائمة حزب “مستقبل وطن”، إلّا أن القليل منهم له دور نشط في الحكم. وهذا يحرم المؤسسة الأمنية من أداةٍ مدنية لتوسيع نطاق دعمها واستمالة حلفاء مُعادين مُحتَملين، من خلال إتاحة إمكانية تقاسم السلطة مع المدنيين. بالإضافة إلى ذلك، فإن عدم وجود حزب مدني حاكم يعني أن السخط الشعبي المُحتَمل سيكون مُوَجَّهاً بشكل مباشر نحو الرئيس عبد الفتاح السيسي والأجهزة الأمنية، وليس ضد حزبٍ مدني حاكم، ما يترك مجالاً محدوداً للنظام للمناورة. على سبيل المثال، في أعقاب الكشف عن المقاول المنفي محمد علي في العام 2019 ، والذي كشف عن فسادٍ واسع النطاق في مشاريع البناء التي يقودها الجيش، إندلعت احتجاجات حاشدة في 23 أيلول (سبتمبر) 2019 – دعت إلى عزل السيسي وإسقاط النظام. وأظهرت هذه الاحتجاجات، التي قوبلت بقمعٍ كاسح، مدى تقلّص قاعدة دعم النظام فعلياً إلى الأجهزة الأمنية والجيش.

كما أصبح القمع أكثر صلة بالموضوع من خلال التوسّع الإقتصادي للجيش – الذي قام بقمع الاضطرابات الاجتماعية والمقاومة المحلية لهذا التوسع. لقد أدّت هذه الحملة إلى قمعٍ غير مسبوق للنشاط العمالي، وزيادة استخدام المحاكم العسكرية ضد العمال. في 27 كانون أول (ديسمبر) 2020 صدرت بحق 35 من سكان جزيرة الوراق أحكامٌ قاسية بالسجن تتراوح بين خمسة وخمسة وعشرين عاماً. وشهدت الجزيرة اشتباكات، في العام 2017، بين الأهالي وقوات الأمن، إثر محاولات القوات الأمنية إجلاء السكان، ضمن خطة تطوير الجزيرة. ويتم تنفيذ هذا المشروع الحكومي بالتعاون مع الجيش. مثالٌ آخر هو قرار وزير العدل، عمر مروان، في أواخر العام 2020 بمنح ضباط الجيش سلطة اعتقال العمال في حالة الاضطرابات أو الإحتجاج. ويعمل هؤلاء الضباط في الشركة القومية لتطوير الطرق والشركة المصرية للتعدين والشركة القومية للثروة السمكية.

يخضع هذا الاعتماد الشديد على القمع أيضاً لسردٍ إيديولوجي ضروري للحفاظ على روح العمل الجماعي للمؤسسة الأمنية وإلى حد ما الدعم بين قاعدتها المدنية. ومع ذلك، فقد ثبت أن هذا السرد يصعب السيطرة عليه بشكل متزايد. يزعم هذا السرد، الذي روّج له مسؤولون حكوميون مختلفون، بمَن فيهم السيسي، أن مصر تواجه جهوداً ومحاولات دولية – بالتعاون مع المعارضة والإخوان المسلمين – لتدمير الدولة. ومن هنا، فإن المبرر الرئيس للحكم العسكري هو حماية الدولة من الانهيار، ولا يُمكن تحقيق ذلك إلّا بالقمع. إذا توقف القمع، فسيعني ذلك هزيمة أعداء الدولة – أو ما هو أسوأ – أن السرد كان خاطئاً، ولن تكون هناك حاجة إلى حكم عسكري.

وبالتالي، فإن القمع ليس فقط نهجاً عملياً، بل هو ضرورة إيديولوجية، مما يُقيِّد مسار عمل النظام. على الرغم من نجاح هذا السرد في تبرير استخدام القمع الجماعي، فقد ثبت أنه من الصعب السيطرة عليه. ومن الأمثلة الرئيسية على ذلك مقتل جوليو ريجيني، طالب الدكتوراه الإيطالي الذي اعتقلته قوات الأمن المصرية في 25 كانون الثاني (يناير) 2016 وزُعم أنه تعرّض للتعذيب حتى الموت في الحجز. واحدة من الأدلات التي استخدمها الإدعاء الإيطالي لاتهام أربعة مسؤولين أمنيين مصريين هي محادثة سمعها شاهد. خلال المحادثة، إعترف مسؤولٌ أمني مصري بالإختطاف والتعذيب، مُدَّعياً أن ريجيني ربما كان جاسوسا لوكالة المخابرات المركزية الأميركية أو الموساد. توضح هذه الحالة تغلغل السرد في المؤسسة الأمنية. وبالتالي، يمكن أن يُقاوَم خفض مستوى القمع من قبل المستويات المختلفة للجهاز الأمني – القاعدة الرئيسية للنظام.

القمع الجماعي مُنتشرٌ في التجسّد الحالي للنظام المصري. لن يكون الحدّ من القمع مُمكناً إلّا من خلال إعادة هيكلة جذرية للنظام السياسي، الأمر الذي قد يستلزم مشاركة مدنية متزايدة في السلطة، سواء في الحكومة أو في المعارضة. على الرغم من أن سيطرة النظام على السلطة ورافعات الدولة لا جدال فيها، إلّا أن مجال المناورة لديه محدود في مواجهة الاضطرابات الاجتماعية. في الواقع، الخيار الوحيد الممكن للنظام هو استخدام القمع الجماعي في حالة الاضطرابات المدنية، والتي لن تُزعزع استقرار مصر فحسب، بل المنطقة بأكملها.

  • ماجد مندور مُحلّل سياسي وكاتب عمود “سجلات الثورة العربية” في “أوبن ديموقرسي”. يمكن متابعته عبر تويتر على: @MagedMandour.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى