هل نشهد المزيد من الجغرافيا السياسية الواقعية في الشرق الأوسط؟

 

بقلم مايكل يونغ*

خلال خمسينات وستينات القرن الفائت، هَيمَن على العالم العربي ما أصبح يُعرَف ب”سياسة المحاور”، حيث كانت الديناميكيات الإقليمية مدفوعة بالتنافس بين التحالفات المختلفة للدول. مع انتهاء “السلام الأميركي” في الشرق الأوسط، تعود المنطقة الآن إلى وضع مُشابه إلى حدٍّ ما، حيث قد تُبشّر النتيجة النهائية بالخير للدول العربية.

بشكلٍ عام، هناك ثلاثة تحالفات واسعة، تتراوح من الإتفاقات العسكرية الرسمية إلى العلاقات التعاونية الأضعف، والتي تجد الدول العربية نفسها فيها اليوم. هناك الإصطفاف السعودي-الإماراتي-المصري، الذي اتّخذ بُعداً جديداً مُهماً عندما توصّلت دولٌ خليجية عدة إلى اتفاقٍ مع إسرائيل من خلال اتفاقات إبراهيم.

هناك تحالفٌ تقوده إيران لدولٍ أو منظمات يشمل إيران وسوريا، وإلى حد ما العراق، و”حزب الله” في لبنان، والحوثيين في اليمن، وبشكل أكثر غموضاُ، حركة “حماس” في الأراضي الفلسطينية. وهناك تحالفٌ ثُنائي ثالث مؤلَّف من تركيا وقطر، ويبدو أن وضعه يمر بمرحلة انتقالية اليوم بعد مصالحة الأسبوع الفائت بين دول مجلس التعاون الخليجي والدوحة.

هذا النطاق من العلاقات ليس تكراراً لسياسات محاور الماضي. لسببٍ واحد، إنها تشمل ثلاث دول غير عربية – إسرائيل وإيران وتركيا – تلعب جميعها دوراً رئيساً في السياسة العربية. كما أن التحالفات ليست مُتماسكة مثل تلك التي حدثت خلال خمسينات وستينات القرن الفائت، عندما كانت التحالفات العربية أكثر رسوخاً في الإنقسامات الإيديولوجية بين الولايات المتحدة والإتحاد السوفياتي.

الإيديولوجيا اليوم بعيدة جداً من عقول حكام المنطقة. بدلاً من ذلك، فإن المُحرّك الأساس للعلاقات هو المرونة والحسابات الهادئة في السعي وراء القوة والمكاسب الإقليمية، في مناخٍ سياسي تركت فيه واشنطن وراءها فراغاً يريد الجميع ملأه. لا تتظاهر الدول بالإلتزام بمبادئ أكبر لتبرير أفعالها، فهي تتعامل بجرأة مع المصلحة الوطنية باعتبارها إثباتاً لخياراتها، وهو ما يُفسّر غالباً تحوّلاتها المفاجئة.

وهذا ينطبق على إيران بقدر ما ينطبق على الآخرين، على الرغم من حقيقة أن القيادة في طهران كثيراً ما تستخدم مصطلحات دينية (وطائفية) لشرح سلوكها. لكن يبدو أن هذا الأمر هو حجابٌ مريح يخفي نزعة وطنية إيرانية أعمق تُغذّيها طموحات الهيمنة الإقليمية. كما أن إيران ليست وحدها في مجال إحياء غرائز الهيمنة السابقة للسعي وراء السلطة اليوم. لقد استعارت تركيا أيضاً من ماضيها العثماني لتلوين سياساتها الحالية.

أدرك الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما هذه الدوافع. وكان يعتقد أنهم سيسمحون لإدارته بإقامة نظام جديد في الشرق الأوسط يسمح لواشنطن بسحب قواتها العسكرية من المنطقة.

في مقابلته الشهيرة مع جيفري غولدبرغ في مجلة “ذا أطلنتيك” (The Atlantic) في العام 2016، لاحظ أوباما، أن “المنافسة بين السعوديين والإيرانيين … تتطلب منّا أن نقول لأصدقائنا، وكذلك للإيرانيين، أنهم بحاجة إلى إيجاد طريقة فعاّلة للمشاركة في المنطقة وإقامة نوع من السلام البارد”.

المشكلة الوحيدة هي أنه من خلال محاولته عرض حصة لإيران في المنطقة من خلال الإتفاق النووي فقد ظهر أوباما كما لو أنه توافق مع الجمهورية الإسلامية، الأمر الذي أدى إلى تصعيد المخاوف بين الدول العربية، وجعل التوترات أكثر، وليس أقل، احتمالية. ومع ذلك، كانت لدى الرئيس الأميركي السابق نقطة مفادها أن انسحاب القوات الأميركية من الشرق الأوسط لن يؤدي إلّا إلى تحقيق الاستقرار في سياق توازن إقليمي جديد.

هذا هو السبب في أن سياسة المحاور الجديدة، القائمة على قراءة واقعية لحدود سلطة الدولة الواحدة، قد تؤدي في يوم من الأيام إلى قدر من الهدوء الإقليمي. ومع ذلك، لن يحدث ذلك قريباً، لأن جميع الأطراف الإقليمية الرئيسة لا تزال تختبر إلى أي مدى يمكن أن تذهب وتصل، في مواجهة الانتكاسات التي تُلزمها بإعادة الحساب باستمرار.

لفترة طويلة، شعرت إيران على وجه الخصوص بالثقة في قدرتها على توسيع نفوذها في الدول العربية المُختلّة وظيفياً. تتضح حدود تلك الإستراتيجية بشكل متزايد. لقد ساعدت طهران على صمود وبقاء  نظام الأسد في سوريا، على سبيل المثال. لكن الثمن كان تدمير البلاد، وعدم الإستقرار الدائم، والردّ العسكري الإسرائيلي المستمر ضد الجهود الإيرانية لبناء بنية تحتية عسكرية هناك.

أظهرت سوريا، مثل لبنان أو العراق أو اليمن، أن وجودها في دائرة نفوذ إيران عادة ما يخلق علاقة أحادية الإتجاه مع طهران. إن نتيجة القوة الإيرانية في هذه الدول هي دمارٌ وانهيارٌ وفساد، كل ذلك لصالح طهران. هذا ليس نموذجاً جذّاباً للمجتمعات العربية، ما يعني أنه بمرور الوقت قد تتلاشى سيطرة إيران ببطء إذا لم تُغيِّر المسار.

إذا كان سيتم إنشاء نظام جديد مستقر في الشرق الأوسط ، فسيتعيّن على التحالفات الإقليمية أن تُظهر ليس فقط القدرة على فرض قيود على منافسيها، ولكن أيضاً تقديم حوافز القوة الناعمة لزيادة جاذبيتها. بالنظر إلى عدم استقرار الأجندات العسكرية في منطقة مُسَلَّحة حتى الأسنان، فمن المرجح أن يصبح الإقناع والجاذبية أكثر أهمية من الترهيب في تحديد النتائج. إن المشاكل الرئيسة التي تلوح في الأفق في العالم العربي تُظهرُ لماذا يصعب الإستهانة بهذا الأمر.

  • مايكل يونغ هو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي الشرق الأوسط، بيروت. يُمكن متابعته عبر تويتر على:  @BeirutCalling
  • كَتَبَ الكاتب هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى