هذا هو أَقدم دستور أُمميّ في العالم

في هذه الناحية من “كوروكان فوغا” وُلدَت الشرعة

بقلم هنري زغيب*

غداة الحرب العالمية الثانية، ولدى اختتام مؤْتمر الأُمم المتحدة الخاص بـ”نظام الهيئة الدولية”، تَـمَّ في مدينة سان فرنسيسكو (كاليفورنيا) التوقيعُ على “ميثاق الأُمم المتحدة” عصر الثلثاء 26 حزيران (يونيو) 1945. لكنه لم يصبح نافذًا إِلَّا بعد أَربعة أَشهر، بدءًا من الأَربعاء 24 تشرين الأَول (أكتوبر) 1945، ليكون منذئذٍ هو النظام الأَساسي لمحكمة العدل الدولية في لاهاي.

جاء في مقدمة الميثاق: “نحن، شعوب الأُمم المتحدة، نتعهَّد أَن ننقذ الأَجيال المقْبلة من ويلاتٍ في حربَين سبَّبَت للإِنسانية، في جيلٍ واحد، أَحزانًا يصعب وصفها، نؤَكِّد إِيماننا بحقوق الإِنسان الأَساسية، بكرامة الفرد وقدَره، وبما للرجال والنساء والأُمم من حقوق متساوية، على أَن نبيِّن الأَحوال التي تُحقِّق العدالة واحترام المعاهدات وسواها من مصادر القانون الدولي. لهذا ندعو إِلى التسامح والعيش معًا بسلام وحسْن جوار، والاحتفاظ بالسلْم والأَمن الدوليين، وترقية الشؤُون الاقتصادية والاجتماعية لجميع الشعوب، موحِّدين جهودنا معًا. ولتحقيق كل ذلك نشأَت هيئةٌ دولية تسمى “الأُمم المتحدة”.

هكذا وُلدَت الشُرعة المكتوبة التي اعتبرتْها جميع الدُول جسْر خلاص البشرية من التقاتل إِلى التصالح.

قبلذاك بسبعة قُرون

بيتر فرايزر رئيس وزراء نيوزيلندا يوقع على الوثيقة (26/6/1945)

كانت جديدةً، صحيح، لكنها ليست الأُولى. فقبْلها وقبْل سان فرنسيسكو بقرون سبعة، وُلِدت شُرعةٌ شَفَوية غير مدوَّنة، ضبطَت المجتمع وسَنَّتْ له قوانين التزم بها الجميع.

كان ذلك سنة 1236 في مدينة كوروكان فوغا (Kouroukan-Fouga) وهي منبسَط سهلي عند منبع نهر النيجر (على الحدود الحالية بين مالي وغينيا)، لذا سميَت الشُرعة باسمها. ولها كذلك اسم آخر: شرعة ماندِن (Manden) على اسم قبيلة مُطْلقها الأَمبراطور سوندياتا كيتا (1190-1255). والشُرعة: مجموعة قوانين أَصبحت دستور أَمبراطورية ماندِن (واسمُها أَيضًا أَمبراطورية مالي). ولأَهميتها التاريخية كرَّسَتْها منظمة الأُونسكو (ﭘـاريس 2009) “أَول تراثٍ للإِنسانية في العالم ثقافيٍّ غيرِ مادي”. فعدا إِرثها الثقافي (نصوصُها مقاطعُ ملحمية شعرية ذات مفاصل أُسطورية تنتقل حكاياتها شفويًّا من جيل إِلى جيل)، استوحَت موادَّها القانونية لاحقًا دولٌ عدةٌ ومجتمعاتٌ لاحقة من ذاك العالم القديم.

شعب الــ”ماندِن” هو في أَساس تشكيل معظم أَمبراطوريات أَفريقيا الغربية. ويُعزى إِلى الأَمبراطور سوندياتا تأْسيس أَمبراطورية مالي في القرن الثالث عشر. وبهذه الصفة، بعد انتصاراته العسكرية على أَعدائه وتأْسيسه أَمبراطوريةَ مالي، جمَع قوَّاده في سهل كوروكان فوغا، وتوافقوا على شرعةٍ، كانت الأُولى والأَقدم في العالم، ولو انها سادت شفويًّا في عصرها، مبدأُها الوحدة المجتمعية وإِعطاء كلِّ فرد حقه أَيًّا تكن طبقته الاجتماعية.

هيكَليَّتُها

غلاف كتيِّب الوثيقة

بعد مقدمتها، تتوالى سبعة فصول تعالج تسهيل الحياة في المجتمع وتأْمين أَمنه ورفاهه. وبين عناوين فصولها: الأَمن الاجتماعي في التعددية، عدمُ التعدِّي على الحقوق الفردية، التربية والتعليم، وحدة الأُمة، الأَمن الغذائي، إِلغاء الاستعباد، حرية التعبير والعمل، …

بقيَت هذه الشرعة الشفوية الاصطلاحية مُصانَة ومحترَمَة جيلًا بعد جيل، وقرنًا بعد قرن، حتى بعد زوال الأَمبراطورية الماندية، وبقيَت طقوسُها مكرَّسةً يلْقِمُها الوالد أَبناءَه، وهؤَلاء أَولادَهم حتى تتواصل التقاليد في هالة شبْهِ مقدسة. ولتأْكيدها جماعيًا يقيمون لها عيدًا سنويًّا عند مطلع الشتاء في قرية كانغابا (اليوم في مالي على الحدود مع غينيا).

وما زالت السلطات المحلية والوطنية في مالي تستوحي من هذه الشرعة تقاليدَها وسُنَنَها، مستمدَّةً منها قوانين تؤَقلمها وحاجات المجتمع، مستخلصةً منها، ولو في تاريخها السحيق، رسالةَ حب وسلام وأُخُوَّة مستمرة. وما زالت شرعة ماندن حتى اليوم تمثل قاعدة القيَم والهوية في مجتمعاتها.

تبقى أَهمية هذه الشرعة أَنها أَلهمَت جميع الدساتير اللاحقة، لكنَّ هذه رفضتْها، أَو لا تَذْكرُها، بِعُقوق يشير بوضوحٍ إِلى تجاهُل شروط الملكية الفكرية.

ماذا في بنودها؟

“نحن شعوب الأُمم المتحدة، نُعلن انضمامَنا إِلى الشُرعة”

هي من أَربعة أَبواب: التنظيم الاجتماعي (من المادة 1 إِلى المادة 33)، توزيع الخيرات (من 34 إِلى 39)، الحفاظ على البيئة والطبيعة (4-42)، ملاحظات ختامية (43 -44).

            ومن أَبرز هذه المواد:

            – على الشعب قولُ الحقيقة للحاكم، والدفاعُ عن القواعد والأُصول والتقاليد والنظام على جميع أَراضي الأَمبراطورية.

            – القادة الروحيون المسْلِمون يَهدُوننا بتعاليم الإِسلام، وعلى الجميع طاعتُهم واحترامُهم.

            – لكل فرد حقُّهُ في الحفاظ على حريته الفردية. وكلُّ من يعتدي على حياة الآخرين مصيرُهُ الموت.

            – تنشأُ في كل قبيلة لجنةٌ لـمُحاربة الكسل والبطالة.

            – على شقيقات الزوج وأَشقائه، وشقيقات الزوجة وأَشقائها، احترامُ بعضهم بعضًا.

            – تعليم الأَولاد واجب: على كل ربّ عائلة فرديًّا، وعلى المجتمع جماعيًّا.

            – على الجميع تَبادُل التعازي في حالات الوفاة.

            – لا يُوصَى بالإِرث إِلى ولدٍ دون سواه إِن كان له إِخوة.

            – ممنوع، لأَيّ سبب، التوجُّه للأُم بأَيِّ إِهانة.

            – لا تحاكَم زوجةٌ ضدّ زوجها بدون حضور زوجها.

            – تتولَّى النساء مسؤُوليات في الحُكْم مع مسؤُولياتهن المنزلية.

            – احترام الشقيق الأَكبر في كل حال.

            – ممنوع استعبادُ الخدَم، وإِعطاؤُهم يوم راحة في الأُسبوع، وعدم تشغيلهم ساعات طويلة في اليوم. سُلْطتنا هي عليهم فقط لا على الأَكياس التي يحملونها مُتْعَبين.

            – ممنوع أَيُّ تَحرُّش بزوجات القائد والجار والشيخ والكاهن والصديق والشريك.

            – التكبُّر علامةُ ضعف، والتواضع علامة كبَر.    

            – لا يخونَنَّ أَحدٌ أَحدًا. ويجب احترام كلمة الشرف.

            – ممنوع تسخيف الأَجانب أَو الإِساءة إِليهم.

            – يُسمح للفتاة بالزواج بدءًا من سن بلوغها، وللشاب بدءًا من سن العشرين.

            – يتكوَّن المهر من ثلاث حصص، واحدة للفتاة واثنتَين لوالدها ووالدتها.

            – لا يصحُّ الطلاق إِلا في ثلاث حالات: العجز الجنسي لدى الرجل، نوبات الجنون لأَحد الزوجين، تقصير الزوج عن القيام بمسؤُولياته وواجباته الزوجية. وتتم مراسم الطلاق دائمًا خارج نطاق البلدة.

            – ضرورة المبادرة إلى مساعدة الآخرين حين يحتاجونها.

            – احترام القرابة العائلية وحالات الجيرة وحرمة الزواج.

            – أُقتلوا عدوَّكم بدون أَن تُذِلُّوه أَو تُهينوه.

            – في الاجتماعات الكبرى، التزموا بمندوبين عنكم من دون خلافات حول مَن يمثلونكم.

            – لاكتساب الملْكية خمس وسائل: الشراء، الوهْب، التبادل، العمل، الوراثة. وتسقط كل وسيلة أُخرى.

            – كل غرض لا يَظهر صاحبه، لا يُصبح اقتناؤُه شرعيًّا إِلَّا بعد مرور أَربع سنوات على إِيجاده.

            – الأَرض أَغلى ثرواتنا، على كلٍّ منَّا حمايتُها والحفاظُ عليها من أَجل الفرد والجميع.

            – عند إِشعال الدغل لا تنظروا أَمامكم إِلى الأَرض بل عاليًا إِلى الأَغصان ورؤُوس الأَشجار.

            – يجب ربْطُ الحيونات الداجنة إِبان عمليات الزراعة، وإِطلاقها إِبان الحصاد. يستثنى من هذا الربط: الكلب، الهر، الأوز، الدجاج.

            – مَن يخالف هذه القوانين أَعلاه أَو أَحدها، يُعاقَب بقسوة صارمة وبلا رحمة. وعلى كلّ فرد تطبيقها وسْع أَراضي الأَمبراطورية بدون أَيِّ استثناء.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر:  @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا المقال في “أَسواق العرب” تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” – بيروت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى