كَيفَ يُمكن إنقاذ الكويت من أزماتها؟

مع اقتراب موعد إجراء الإنتخابات البرلمانية الكويتية، تتطلّع البلاد إلى معالجة أوجه القصور التي تعتري هويتها ومنظومتها السياسية.

الكورونا زادت الطين بلة في الكويت

بقلم بدر السيف*

فيما تَستَعِدّ الكويت لإجراء انتخاباتِ مجلس الأمة في موعدها المقرّر في 5  كانون الأول (ديسمبر)، يشهد البلد أزمات مُتعدِّدة الجبهات، بدءاً بالأزمة الإنسانية والإنكماش المالي، مروراً بتردّي الخدمات العامة، ووصولاً إلى بعض الإختلالات في النظام السياسي.

شكّلت جائحة كوفيد-19، بالإضافة إلى وفاة الأمير صباح الأحمد الصباح، تحديات إضافية للكويت، بيد أن الإنتقال السلس للسلطة حصّن المنصب الأعلى في الدولة من تفاقم الأزمات التي تواجهها الكويت منذ فترة طويلة. لكن في المقابل، أماطت جائحة كورونا اللثام عن عمق هذه المشاكل، فبدأت تلوح في الأفق الكويتي بوادر عاصفة ستهبّ بكامل قوتها ما لم تضع السلطتان التنفيذية والتشريعية المُقبلتان خلافاتهما جانباً لانتشال البلاد من مأزقها.

يتطلّب إنتشال الكويت من أزماتها حكماً معالجة الأسباب الجذرية لهذه الأزمات، والإقرار بأن العديد من المشاكل الشائكة في البلاد نابعة من الخلل القائم في منظومتها السياسية، والتي يُؤجّجها الصراع المستمر على هوية الدولة. لذلك من الضروري إعادة النظر في أوجه القصور بالمنظومة السياسية والهوية الوطنية لإحداث التغيير اللازم، والتوصّل إلى حلٍّ دائم للمشاكل التي تُعانيها البلاد منذ عقود.

لا تليق الأزمة الإنسانية التي تشهدها الكويت بدولة سمّتها منظمة الأمم المتحدة”مركزاً للعمل الإنساني”. هذه الأزمة تنطوي على بُعدَين تعود جذورهما إلى تاريخ استقلال البلاد. يتمحور البُعد الأول حول وضع السكان عديمي الجنسية في الكويت، المعروفين ب”البدون”، والذين يُنظَر إلى وضعهم انطلاقاً من ثلاث وجهاتِ نظرٍ مُختلفة. فالبعض يعتبرهم مواطنين كويتيين لم يتقدّموا بطلب الحصول على الجنسية؛ فيما يرى البعض الآخر أنهم يستحقون الجنسية بعد إقامتهم المُطوّلة في الكويت، أو الخدمات التي قدّموها للبلاد، أو لأنهم من أُمٍّ تحمل الجنسية الكويتية؛ أما النظرة الثالثة فترى أن ثلث أعداد البدون مؤهلون للحصول على الجنسية الكويتية، وما تبقّى منهم إما مستحقو الحصول على الإقامة أو مُنتَحلو صفة، أي أنهم يحملون جنسيات أخرى، وسيقوّض تجنيسهم الهوية الوطنية الكويتية. تتجلّى هذه الرؤى المختلفة من خلال التقدّم بمشاريع قوانين مُتضاربة حيال وضع البدون. وفيما التناحر مُستَمر على قدم وساق بين هذه الأطراف الثلاثة، يتعرّض البدون إلى المزيد من التهميش والإقصاء والحرمان من الحقوق المدنية.

أما البُعد الثاني لهذه الأزمة الإنسانية فيتمثّل في العمال المهاجرين الذين يمارسون مهناً لا تتطلب مهارة عالية، إذ يقع بعضهم ضحايا الإتجار بالبشر أو تجارة الإقامات، ويتعرّض معظمهم إلى سوء المعاملة. وهذا ما تُظهره ظروف عيش العمال وبيئات عملهم غير الملائمة، بالإضافة إلى تدنّي أجورهم، والقيود الصارمة المفروضة على تنقّلهم. لقد اتخذت الدول الخليجية المُجاورة خطواتٍ لإصلاح مكامن الخلل في نظام الكفالة الذي يُرسّخ بشكل كبير أوجه اللامساواة، بيد أن الكويت لم تُبادر إلى ذلك بعد، ما يشي بتصاعد حدة كراهية الأجانب داخل المجتمع الكويتي. يُضاف إلى ذلك أن الكويت تبنّت سياسات بالية مثل ترحيل المهاجرين فوق سنٍّ مُعَيَّنة، بدلاً من التفكير في آليات واضحة لمنح تأشيرات الإقامة المُطَوَّلة بناء على ما يمتلكون من مهارات. يُشار في هذا الصدد إلى أن أعداداً من البدون يخدمون في سلكَي الجيش والشرطة، فيما يزاول 30 في المئة من سكان البلاد أنشطة تتطلب مهارات منخفضة. يشكّل هذا دليلاً على أن هذه الأزمة لا ترتبط بالوضع الإنساني فحسب بل تمتد إلى مستوى الأمن الوطني.

تشهد البلاد كذلك أزمةً اقتصادية هي الأسوأ منذ عقود. فاعتماد الإقتصاد الكويتي المُتواصل على الموارد النفطية التي تمثّل المصدر الأساس للدخل، ترك البلاد رهينةً لقوى السوق. نتيجةً لهذا الواقع، وعلى ضوء المادة 41 من الدستور التي تمنح لكل كويتي الحق في العمل، باتت الدولة أكبر موظِّف للقوى العاملة، ما فاقم الضغوط على المالية العامة. فالدولة لن تتمكن من الاستمرار في توظيف الأعداد المتزايدة من السكان ومواصلة تقديم المستوى نفسه من الخدمات الاجتماعية، ولا سيما أن نسبة 71 في المئة من الموازنة العامة مُخَصّصة للرواتب والدعم، في ظل بلوغ العجز في هذه الموازنة 46 مليار دولار، يترافق مع ارتفاع هائل في المصاريف من 22.7 مليار دولار في السنة المالية 2005-2006  إلى 70.3 ملياراً في السنة المالية 2020-2021. وفيما تجد الدولة نفسها مُضطَرّة إما لمواصلة السحب من صندوق الإحتياطي العام الذي تشرف أمواله على النفاد، أو الاستقطاع من أصول صندوق إحتياطي الأجيال المُقبلة، أو الإستدانة، يبدو هذا الخيار الأخير الأكثر ترجيحاً. ويُتوقّع أن تقر الحكومة قانون الدين العام قبل موعد انعقاد البرلمان. لا شك أن هذه الخطوة من شأنها تحسين الأوضاع في المدى القريب، لكنها لن تحل المعضلة الإقتصادية التي تُواجهها البلاد، ولن تُصَوِّب مسارها. فالسعي نحو أهداف كهذه يتطلّب حلول استراتيجية مُناسبة.

إلى جانب الفساد المُتفشّي في القطاع العام، يُعتَبَر مستوى انعدام الكفاءة في الدوائر الحكومية صادماً في دولة غنيّة بالنفط. وعلى الرغم من التحوّل الرقمي في قطاعاتٍ حكومية عدة، لا يزال الأداء دون المستوى. فإنجاز المعاملات البسيطة صعبٌ على المواطنين، ويقتضي غالباً الإستعانة بآخرين من أجل تمرير المعاملات. ينبغي إذاً إجراء إصلاح إداري جذري على مجلس الخدمة المدنية، وإعادة هيكلة الحكومة لضمان سيادة القانون وتطبيق مبادئه على نحوٍ أفضل، من أجل الحصول على موظّفين حكوميين أكفّاء.

وعلى الرغم من تخصيص مبالغ كبيرة من الموازنة لقطاعَي الصحة والتعليم عادة ما يُرسَل المرضى إلى الخارج لتلقّي العلاج، فيما ينال الطلاب علامات تُعتَبَر من بين الأدنى في التقييمات الدولية. لقد كشفت جائحة كوفيد-19 هشاشة المنظومة التعليمية، والدليل على ذلك أن الكويت هي البلد الوحيد في المنطقة، إن لم يكن في العالم، الذي أوقف التعليم الرسمي لفترة تتراوح من ستة إلى ثمانية أشهر. ويُعَدُّ التأخير الشديد في الفصل في قضايا المحاكم وتأمين وحدات سكنية، ناهيك عن انتهاج سياساتٍ أدّت إلى ارتفاع متوسط أسعار الأراضي لتصبح من بين الأغلى في العالم، أمثلة على قصور الأداء الذي يستدعي إجراء إصلاحات جذرية ومُلحّة.

لم تبقَ الدولة والمجتمع مكتوفي الأيدي أمام هذه التحديات. فقد رفعت الحكومة أخيراً مستوى أدائها في مكافحة الفساد والإتجار بالبشر. واقترح بعض مسؤولي الدولة الأكفّاء حلولاً للمشاكل التي تُعانيها الكويت، لكن المنظومة لا تسمح بتحقيق إنجازات كبيرة. فالأشخاص الواعدون، كما الأفكار البنّاءة، يصطدمون بالتعطيل بسبب مزيجٍ من الأفكار غير الحاسمة، أو الإصلاحات غير المُنجَزة، أو المصالح الخاصة، أو ازدواجية الجهود، أو المعارك السياسية، أو المنظومة المُهترئة، أو ببساطة انعدام الكفاءة. ويُضاف إلى هذا كلّه غياب الوعي، لا بل الإنكار المُقلق، لحجم الأزمات التي تتخبّط فيها البلاد.

لا يُمكن فهم الكويت ومشاكلها فهماً كاملاً إلّا من خلال رسم خيوطٍ تربط هذه المشاكل ببعضها البعض أولاً، ثم بالبنية السياسية ككل. فقد اعتبر أمير الكويت الراحل أن مأزق البلاد مردّه إلى التركيبة السياسية، حيث يجمع الدستور بين النظامَين الرئاسي والبرلماني، ما يولّد تداخلاً بين عمل الحكومة ومجلس الأمة، هذا التداخل يؤدي إلى إشعال الخلافات بينهما بصورة مستمرة. وقد تسبّبت هذه الصراعات المُزمنة بعرقلة التنمية، ودفعت بمؤسسات الدولة إلى خوض معارك سياسية عقيمة، كانت نتيجتها تَعاقُب ثماني عشرة حكومة وسبعة برلمانات على السلطة في الأعوام العشرين الماضية. لذا، من الضروري جدّاً إصلاح الدستور والمنظومة السياسية. قد يؤدّي تجنّب تطبيق إصلاحات سياسية جريئة من خلال إقرار قوانين على غرار قانون الصوت الواحد في العام 2012، إلى ترجيح كفة الميزان لصالح السلطة التنفيذية وتهدئة المنظومة لبعض الوقت، لكن هذه الإجراءات لن تُقدّمَ حلولاً دائمة إلّا إذا اقترنت بعملية إصلاح شاملة.

تكمن المعضلة الأساسية التي تواجهها المنظومة السياسية والمشاكل النابعة عنها، في غياب الإجماع حول الهوية الكويتية. فما القيم التي تُجسّدها الكويت، وما هي تطلعات شعبها؟ للإجابة عن هذا السؤال، لا بدّ من إطلاق حوارٍ وطنيٍّ صريح، حتى وإن كان صعباً في بعض الأحيان، يشقّ مساراً مُستداماً نحو الإصلاح عبر إعادة النظر في المنظومة السياسية وآليات الحَوكمة العامة.

فهل ستبقى الكويت قادرة على المحافظة على إرثها الذي سبق ظهور النفط من خلال خلق بيئة مُنفتحة تعمل جاهدةً لخير الجميع ورفاههم؟ أم ستنغلق على ذاتها خائفةً من الآخر، وتنكبّ على حماية نفسها ومواردها، وتجعل الفرص فيها محصورةً بقلّة قليلة؟ تدفع المنظومة القائمة باتجاه السيناريو الأخير، ما يشكّل قطيعة مع ماضي الكويت ويُفاقم مشاكلها.

أدّى التمسّك بمفهوم ضيّق عن الإنتماء للكويت إلى إقصاء البدون والأجانب، فيما تسبّب التوظيف المضمون دستورياً والامتيازات المالية بانتشار الإتكالية لدى السكان، وبتردّي نوعية الخدمات. لقد تقهقرت الهوية التي كانت تتّسم بها البلاد قبل اكتشاف النفط، لكنها لم تنحسر كلياً بعد، فما زال جزءٌ من السكان يسعى إلى تخفيف وطأة الأزمات الإنسانية والإقتصادية في البلاد.

مع ذلك، تُعاني الكويت من التبعات الناجمة عن منظومة سياسية غير مواكبة للتحديات والمُتغيرات تجمع بين عناصر غير مُتّسقة، تدفع إلى التعايش الصعب بين هويات مُتضاربة، ما يؤدّي إلى تأخير التغيير الحقيقي. لذا، تتمثّل الخطوة الأولى لتصويب المسار في معالجة التحديات التي تواجهها البلاد، وعلى رأسها الشوائب التي تعتري منظومتها السياسية، وهوياتها المُتصادمة من أجل حماية الكويت من نوازع تدمير الذات.

  • بدر موسى السيف، زميل غير مقيم في مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت. تتركّز أبحاثه على دول الخليج وشبه الجزيرة العربية. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @bmalsaif  

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى