صفاتُ الحاكمِ الصالح ولماذا يَكرَهُ الشعبُ الحُكّام؟

بقلم السفير جان معكرون*

كان الشاعر والأديب اللبناني سعيد عقل يُردّد أمامي في ثمانينات القرن الفائت أنَّ على الحاكم وكلّ مَن يتولّى مسؤوليةً وطنية أن يكون الأشرف والأعرف والأجرأ.

الشريف هو الصادق والقادر على قول الحقيقة والعمل بصدقٍ وإخلاص، وهذه صفاتٌ ضرورية لكي يكسب ثقة الآخرين. وفي هذا السياق، ترتكز هذه الصفة على شرطَين أساسيين: الأول هو الصدق، أما الثاني فهو النزاهة التي تعني التمسّك بالقيم والمبادئ الأخلاقية. إنّ قول الحقيقة والتمايز بالنزاهة يستلزمان وجود شخصية مُنصَهرة بالقيم، وإن تعذّر وجود هكذا شخصية مُلتَزمة يَفسَح في المجال أمام استشراء الفساد والظلم، وكذلك التعسّف في استعمال السلطة وفي مخالفة القوانين.

لا شكّ أنّ الرشوة والفساد هما نقيضا النزاهة التي تشترط الموضوعية في التصرّف والأداء، أي ألّا يرضخ المسؤول لعواطفه وميوله الشخصية أثناء أدائه لعمله، بل عليه أن يُعامِلَ الجميع بالمساواة وفقاً للمعايير ذاتها وطبقاً للقوانين النافذة.

لكن من المؤسف القول أنّ البيئة الإجتماعية لا تسمح أحياناً بتطبيق القانون بل تساهم في نموّ الفساد وانتشاره. والمثالُ الأكثر دلالةً هو التقليد السائد والمُتعامَل به لدى الدوائر الرسمية والبلدية في لبنان، والتي درجت على غضّ النظر عن المخالفات المتعلقة بقوانين البناء والتنظيم المدني وعن التعدّي على الملكية العامة كالطرقات والأملاك البحرية…

إنّ تغاضي السلطات الرسمية عن إيقاف هذه المخالفات يُشجّع أصحاب المصلحة على دفع الغرامات في إطار ما يُعرف بالتسويات. إنّ التسوية هي من منظورنا بمثابة تقديم الرشوة إلى السلطات المُختَصّة مُقابل التغاضي عن إزالة المخالفة، ما ينعكس سلباً على مصالح المواطنين سواء كان في تضييق الطرقات العامة أو في تشويه الشواطئ البحرية من جرّاء هذا التعدّي. إضافةً إلى الأثر السلبي والخطير المتمثل في جعل المواطن يستسيغ اللجوء إلى تقليد “التسوية-الرشوة” واعتباره مألوفاً، فيعتاد عليه طالما أنّ الإدارة تقبل مفهوم “الغرامة-الرشوة” مقابل تسوية كل ما هو مخالف للقانون.

وغني عن القول إنه في بعض المُجتمعات المتخلفة، يميل العديد من المسؤولين والعاملين في الخدمة العامة إلى أن يراعوا مصالحهم الشخصية على حساب المصلحة العامة، ويتجلى ذلك عمليًّا في ما يُسمى الزبائنية ومحاباة الأقارب والمحسوبية والإحتكار. ولقد انتقد هذه الظاهرة “فرانسيس فوكوياما”، الكاتب السياسي الأميركي في كتابه “الهوية” حيث قال: “إنّ الشعب الذي لا يفتخر بوطنه لا يُمكنه أن يعمل من أجله”، وأعطى مثلاً على ذلك كيف أنّ اليابان وكوريا الجنوبية والصين أنتجت نخبة ركّزت على تطوير اقتصادها أكثر من سعيها إلى الإغتناء الشخصي.

نتطرّق الآن إلى الميزة الثانية، عنينا بها الحاكم الأعرف والمُفترَض أن يكون القادر على الابتكار في مهامه الوطنية.

الأعرف هو العميق والواسع في فكره ومعرفته وهو القارئ الجيد في مؤلفات الفلاسفة الإغريق والمعاصرين وفي تاريخ الحضارات.

وهو الذي يحيط نفسه بالعقلاء والمفكرين الكبار من كتّاب وصحافيين، إضافةً إلى ضرورة تعمّقه في سيَر حياة العظماء مثل “غاندي” و”خوسيه مارتي” و”مارتن لوثر كينغ” و”مانديلا” وغيرهم من الذين أغنوا تاريخ الإنسانية في ميادين حقوق الإنسان والحريات العامة والسلام…

الأعرف هو صاحب رؤية مستقبلية يستفيد منها جيل وتتعلّم منها أجيال.

وتجدر الإشارة إلى أنّ الغني بالمعرفة هو المتمكّن من اتخاذ قرارٍ حاسم وابتكار مبادرات منتجة للمجتمع، وهو المؤهّل لكي يكون جزءًا من الحل وليس من المشكلة.

السؤال الواجب طرحه هنا هو هل يكفي أن يتمايز الحاكم بالمعرفة والصدق لكي يحكم بتعقّل ويرعى شؤون المواطنين بعدلٍ، أم أنه يحتاج إلى ميزة أخرى مهمة، عنينا بها الجرأة؟

إنّ للجرأة أوجهاً مختلفة. في المطلق الجريء، هو الذي يُجابه الموقف أو التحدّي الذي يخاف منه، ولقد عبّر “مارتن لوثر كينغ” عن هذه النظرة قائلاً إنّ المقياس الأرقى والنهائي للرجل يبرز ليس في أوقات الرخاء والسلام بل في أوقات التحدّي والصعاب. ولعلّ أبهى مظاهر الجرأة تتجلى في المقولة المعبّرة للإمام علي بن أبي طالب عندما قال: “إذا هِبتَ أمراً فَقَعْ فيه”، والحكمةُ في ذلك أنه على المرء أن يُجابِهَ أيّ موقف يخافه، فإن نجح حقّق إنجازاً، وإن فشل اكتسب خبرةً للتصدّي لمواقف مُشابهة.

ويجدر بنا أن نستخلص بأنّ الحاكمَ الجريء هو الذي يرفع صوته عالياً لنصرة العدل على الظلم وللدفاع عن حقوق شعبه، وهو الحريص الدائم على تطبيق القوانين. الحاكم الجريء هو بمثابة الأم التي تتخلى عن خلاص نفسها إذا أرادت أن تٌخلّص ولدها، وبمثابة الجندي الذي يتخلّى عن حفظ حياته في سبيل حفظ وحماية وطنه.

متى يكره الشعب الحكّام؟

إنّ مَن يَعمل في الحقل الديبلوماسي يغتني بالخبرة الواسعة والفكر المتنوّع، لكنّ الأهم من ذلك أنه يُتابع ويُراقب تصرّف أداء الحكّام وردّة فعل الشعب لكي يستخلص ميزات وطبيعة الحياة السياسية بالمقارنة مع معيارَين مهمَّين، الأول هو مدى تطبيق القوانين، والثاني مدى تحقّق الحكم الجيد.

وإذا سلّمنا جدلاً بأنّ العمل الديبلوماسي يفترض أولاً احترام الدولة المُضيفة بشعبها وحكّامها، وثانياً مراقبة مسيرة الحياة السياسية، وثالثاً متابعة عمله التقليدي، فإنه تحصّل لي من خلال مهامي الديبلوماسية أنّ الشعب يميل إلى كره الحكّام عند تحقّق الظروف الآتية:

  1. عندما تزداد الطبقة الفقيرة فقراً وتتحوّل غالبية الطبقة الوسطى إلى فقيرة.

يُجمع الفلاسفة أنه لا توجد في المجتمع ظاهرة أبشع من الفقر. وفي هذا السياق، علّق “فرنسيس فوكوياما” قائلاً إنّ الفقير هو غير المرئي من قبل إخوانه البشر، وغالباً ما يُشكّل تغييبه أو تهميشه إهانة أكبر من افتقاره إلى المال.

  • إنّ اغتناء الحكّام السريع وغير المُبرَّر يُغضب الشعب ويدفعه إلى النقمة ثمّ الثورة والعنف. ومن هذه الزاوية، تتجلى ظاهرة الفساد في أوجهها المختلفة مثل الاستيلاء على الموارد العامة والأموال الخاصة من أجل المنفعة الشخصية، إضافةً إلى المحسوبية والمُحاصصة المقوّضة لمبدأِ الكفاءة.
  • إنّ مخالفة القوانين من قبل الحكّام وكل من يتولّى مسؤولية عامة هي من أهم أسباب كره الشعب للحكّام. وإنّ الأوجه البشعة لمخالفة القوانين عديدة مثل تسخير القوانين لخدمة القوي والغني على حساب الضعيف والفقير ولخدمة صاحب النفوذ على حساب مَن لا نفوذ له، أي عدم مساواة الجميع أمام القانون. وفي هذا الإطار، تحضرني مقولة البابا بولس السادس عندما ذكر: “إنّ السلام لا يتحقق إلاّ بالعدل”.
  • تتعاظم نقمة الشعب ضدّ الحكّام عندما تتعسّف السلطة في استعمال القوة المُفرِطة ضدّ المواطنين الذين يُطالبون بحقوقهم وحاجاتهم الأساسية والتي فشلت السلطة في تأمينها، مثل الكهرباء والماء والضمانات الإجتماعية والصحية وفُرَص العمل والحياة الآمنة، في حين تنعم فئة كبيرة من الأوليغارشية السياسية والاقتصادية بجميع وسائل الرفاهية.

وأخيراً، نختم قائلين أنه يحزُّ في النفس أن نرى أحياناً كيف أنّ المسؤول عن تطبيق القوانين يُحاسَبُ ويُلام ليس لأنه لم يُطبّق القانون بل لأنه لم يُراعِ مصالح أصحاب النفوذ على حساب القانون.

إنّ عدم تطبيق القوانين وعدم توافر الحكم الجيد سيؤديان حتماً إلى ازدياد الهوّة بين الأغنياء والفقراء، وإلى ارتفاع نسبة البطالة، وإلى تصاعد النقمة بين طبقات الشعب بفعل ازدياد فداحة التمييز والتفرقة في ما بينها بسبب عدم المساواة وعدم تكافؤ الفُرَص. هذه العوامل كافية لنشوء الفوضى وكفيلة بالزوال التدريجي لمؤسسات الدولة.

  • السفير الدكتور جان معكرون هو ديبلوماسي لبناني سابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى