مصر تَستَعيدُ دورَها في الشرق الأوسط؟

فاجأت مصر أخيراً أميركا والعالم بتوصّلها إلى وقفٍ لإطلاق النار بين إسرائيل وحركة “حماس” بعد 11 يوماً من القتال الضاري، الأمر الذي سلّط من جديد الأضواء على  دورها في المنطقة.

الرئيس جو بايدن: كان ممنوناً من ديبلوماسية مصر لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و”حماس”.

محمد العريان*

خلال الأشهر الأربعة الأولى من تولّيه منصبه، لم يتحدّث الرئيس الأميركي جو بايدن مع نظيره المصري عبد الفتاح السيسي – ما شكّل سابقة وخروجاً ملحوظأ عمّا كان سائداً تقليدياً، نظراً إلى تاريخ العلاقات الأمنية الوثيقة التي تربط البلدين. لكن بعد فترةٍ من الصمت، تحدّث بايدن مع السيسي مرّتين على مدار خمسة أيام في أيار (مايو) الفائت، مُعرِباً عن “امتنانه الصادق” لمصر “لديبلوماسيتها الناجحة” في تأمين وقف إطلاق النار الذي أنهى 11 يوماً من القتال العنيف بين إسرائيل وحركة “حماس” في قطاع غزة.

بعد يومين، زار وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكِن مصر والأردن كجزءٍ من جولةٍ إقليمية لتعزيز وقف إطلاق النار. لقد دفع الدور الرئيس الذي لعبته القاهرة في تأمين الهدنة بها إلى دائرة الضوء الديبلوماسية مرة أخرى، الأمر الذي سمح لإدارة السيسي ليس فقط بإعادة تأكيد نفسها في المنطقة وخفض التأثير المتزايد للقوى المُنافِسة في المنطقة، ولكن أيضاً لتحسين علاقات مصر المُتوتّرة في البداية مع فريق بايدن في واشنطن.

الصمتُ المُحرِجُ الذي ساد بين القادة الأميركيين والمصريين فور تنصيب بايدن كانت سبقته تصريحات مُعلَنة. في حين وصف دونالد ترامب الرئيس السيسي بأنه “الديكتاتور المُفضَّل” لديه على الرغم من التقارير العديدة التي تُفيد بأن قوات الأمن المصرية كانت تُضايق المُعارضين وتعتقلهم وتُعذّبهم، فقد وعد بايدن بوضع مخاوف حقوق الإنسان في صميم العلاقات الأميركية مع مصر. وفي تموز (يوليو) 2020، وعد بايدن، المُرَشَّح حينها، “بعدم منح المزيد من الشيكات على بياض لـ”الديكتاتور المُفضَّل لترامب”.

ولكن مع احتدام القتال في الشهر الفائت بين إسرائيل – أقرب حليف لأميركا في المنطقة – و”حماس”، توصّل السيسي إلى كيفية جذب انتباه بايدن. في تحوّلٍ صارخٍ من خطاب القاهرة السابق تجاه حركة “حماس”، التي وصفتها المحاكم المصرية بأنها منظمة إرهابية، بدأت وسائل الإعلام الحكومية المصرية في وصف “حماس” والفصائل المُسلّحة الأخرى في غزة بـ”حركات المقاومة” والقوات الإسرائيلية بـ”المحتلّة”. في منتصف أيار (مايو) فتحت الحكومة المصرية معبر رفح الحدودي، وهو الممر الوحيد لغزّة إلى العالم الخارجي الذي لا تُسيطر عليه إسرائيل، وأرسلت أكثر من 3,000 طن من المساعدات الإنسانية في قوافل مُزَيَّنة بصور السيسي.

كما وعدت مصر بتقديم مساعدات بقيمة 500 مليون دولار في إطار جهود إعادة بناء غزة بعد القصف الإسرائيلي الأخير الذي شرّد حوالي 91 ألف فلسطيني ودمّر 450 مبنى، بما فيها 51 منشأة تعليمية وستة مستشفيات، وفقاً للأمم المتحدة. باعتبارها واحدة من القوى الإقليمية القليلة التي تتعامل مع كلٍّ من “حماس” وإسرائيل، تمكّنت القاهرة من استخدام هذا النهج الأكثر دِفئاً تجاه غزة، فضلاً عن علاقاتها الأمنية الطويلة الأمد مع إسرائيل، للتوسّط في وقف إطلاق النار وإعطاء إشارة إلى واشنطن بأنها ما زالت قادرة على “مُعالجة” الملف الفلسطيني.

وتأتي جهود مصر لصنع السلام وسط مؤشراتٍ إلى تنامي النفوذ الإقليمي لدول الخليج العربية. كان الإتفاق الأخير بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة لتطبيع العلاقات الديبلوماسية مصدرَ قلقٍ بشكلٍ خاص بالنسبة إلى المصالح التجارية والاستراتيجية للقاهرة. لقد هدّدت الصفقة، المعروفة ب”اتفاقات إبراهيم”، الدور التقليدي لمصر كوسيط رئيس في القضايا المُتعلّقة بالأراضي الفلسطينية.

فتحت إتفاقات إبراهيم أيضاً الباب أمام العديد من المبادرات الاقتصادية الإسرائيلية-الإماراتية الجديدة التي يُمكن أن تتحدّى المصالح المصرية. وبالتحديد، أعرب مسؤولون مصريون عن مخاوفهم بشأن مشروعٍ مُخَطَّطٍ لنقل النفط الإماراتي إلى البحر الأبيض المتوسط ​​عبر خط الأنابيب العابر لإسرائيل، الذي يمتد من مدينة إيلات المُطلّة على البحر الأحمر إلى ميناء عسقلان على البحر الأبيض المتوسط. ومن شأن ذلك أن يُهدّدَ حصّة كبيرة من شحنات النفط التي تتدفق عبر قناة السويس المصرية.

لذا، بالنسبة إلى مصر، كان انخراطها الديبلوماسي المُكثّف مع الولايات المتحدة وإسرائيل و”حماس” نصراً تمسّ الحاجة إليه. سلّط وقف إطلاق النار الضوء على أهمية القاهرة في المنطقة، بينما لم تتمكّن أبو ظبي وحلفاؤها الخليجيون من التأثير في الفصائل الفلسطينية على الأرض أو تقييد السلوك الإسرائيلي. وهذا الأمر أكّد حدود اتفاقات إبراهيم. بعيدةً من “إنهاء الصراع العربي-الإسرائيلي نهائياً”، كما وعد رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو، لم تُتَرجَم الإتفاقات -على الأقل حتى الآن- إلى تأثيرٍ ديبلوماسي أو استراتيجي أكبر لدولة لإمارات.

جاءت وساطة مصر في المحادثات بين إسرائيل والفلسطينيين وسط تقاربها مع اثنين من المنافسين الإقليميين الرئيسيين للإمارات، تركيا وقطر، اللتين تتمتّعان بعلاقات وثيقة بينهما. عقدت القاهرة وأنقرة أخيراً أول محادثات ديبلوماسية رسمية منذ قطع العلاقات في العام 2013. ومن المقرر أن يلتقي السيسي قريباً أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني في الدوحة، وهي أول قمة مباشرة بين قائدَي البلدين منذ ثماني سنوات.

بالطبع، لا تزال هذه المحادثات في مراحلها الأولى. لكن إذا تقدّمت أكثر في الأشهر والسنوات المقبلة، فقد تفتح الباب أمام تحالفٍ جديد للقوى في الشرق الأوسط لمنافسة الإمارات وحلفائها الخليجيين. سيسمح هذا المحور الناشئ لمصر باستعادة دورها التقليدي في قلب السياسة والديبلوماسية في العالم العربي. يُمكن أن تكون لها أيضاً تداعيات مهمة على المسعى الفلسطيني لتقرير المصير، حيث أظهرت مصر قدراً أكبر من الاستعداد والقدرة على العمل كوسيطٍ نزيه بين إسرائيل والفلسطينيين.

ومع ذلك، لا تزال هناك عقبات كبيرة قبل أن تتمكّن القاهرة من الالتزام الكامل بدورٍ قوي في تحالفٍ ثلاثي مع الدوحة وأنقرة. تفتقر مصر إلى الموارد المالية الهائلة لدولة الإمارات وتواجه تهديدات أخرى مُشَتِّتة للإنتباه من جيرانها الأفارقة، لا سيما نزاعها مع إثيوبيا حول سد النهضة الإثيوبي الكبير، الذي يُهدّد بشكل كبير الأمن المائي لمصر. وحتى إنجاز القاهرة الأخير، وقف إطلاق النار بين حماس وإسرائيل، لا يزال في أيامه الأولى، مع وجود مؤشرات محتملة إلى تجدّد الأعمال العدائية بين الجانبين.

ولكن، في المدى القريب، فإن الصحوة الديبلوماسية الأخيرة في مصر يمكن أن توفّر بعض التوازن الذي تشتد الحاجة إليه للأمن الإقليمي. كان لبروز الإمارات المتصاعد في السنوات الأخيرة تأثير كبير في الشرق الأوسط، حيث قادت القيادة الإماراتية حصاراً في العام 2017 ضد قطر، وصعّدت الحرب في اليمن وتدخّلت في الصراع في ليبيا. بالنظر إلى المستقبل، سيعتمد نجاح النفوذ المُتجدّد لمصر إلى حد كبير على قدرتها في الحفاظ على توازنٍ دقيقٍ بين المُنافسين الإقليميين. إذا نجحت القاهرة في شقّ طريقٍ مُستقل، فستكون لذلك تداعيات واسعة النطاق في المنطقة وخارجها.

  • محمد العريان هو باحث في الشؤون السياسية في الأمم المتحدة. حصل على درجة البكالوريوس من جامعة كوين ماري في لندن ودرجة الماجستير في القانون الدولي من كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية. شارك سابقاً في برنامج “يوبلانت” (EUPLANT) لاستكشاف التعاون القانوني والقضائي بين الاتحاد الأوروبي والصين في لندن وسيول وبروكسل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى