الكذبُ ملحُ السياسيين و… العُشّاق؟

بقلم عرفان نظام الدين*

الكذبُ آفةٌ تُشعل حرائق وتهدم بيوتاً وتُدمّر إنساناً، وقد ابتُلينا بها عبر التاريخ فصرنا نعيش اليوم في عالمٍ عامِرٍ بالكذّابين على مختلف الصُعُد: دولٌ ومجتمعات وأشخاص عاديون.

وأخطر ما في الأمر هو الإبتلاء بهذا الصنف من البشر عند مقاربة قضايا ومشاكل ومصائب كتلك التي نعيشها هذه الايام، مثل الحروب والإضطرابات والأزمات المالية والمعيشية، وصولاً الى الغلاء الفاحش والبطالة المُستَشرية التي قرّبتنا في لبنان من مرحلة الجوع وربما المجاعة الشاملة.

ومن المُبكيات المُوجِعة أن لا نجد مُعالجات جدّية، ولا تعبئة وإعلان حالة طوارئ بعدما زادت جائحة الكورونا الطين بلّة بتعطيل مرافق الحياة والشرايين الإقتصادية العامة وحالة الرعب، بل على العكس لا نجد إلّا إهمالاً وإنكاراً وتكاذباً بين المسؤولين مع إلقاء المسؤوليات على ظهرِ جهاتٍ غامضة أو مجهوله الهوية عند تكرار عبارة تضليلية مثل “ما خلّونا” :وهنا … من دون تحديد ولا كشف لهم، لوضع الإصبع على الجرح.

حالة الإنكار هذه مصبية تُضاف الى مصائبنا عندما نسمع رئيس وزراء يُعلن من دون ان يرفّ له جفن أنه حلّ 97 في المئة من المشاكل وفق إنجازاته التي يبقى منها 3 في المئة، أو أن نرى وزيراً يُعلن ان المواطن ميسورٌ وقادرٌ على التحمّل …أو أن نسمع مسؤولة تؤكد بالفم الملأن من دون خجل بانه ليست هناك أزمة إقتصادية وأن الأوضاع مٌستقرّة، والإقتصاد بخير، والأسعار عادية فيما المواطن يتلوّى من حرائقها وقيمتها التي تأكل الأخضر واليابس من الدخل والمعاشات.

كأن المصائب لا تكفينا حتى نُبتَلى بهذا الصنف من المسؤولين السائرين على خطى السياسي النازي الألماني، ووزير الدعاية في ألمانيا النازية يوزيف غوبلز وشعاره “إكذب إكذب” فكلما كانت الكذبة كبيرة صدّقها الناس و كأنها صحيحة.

وِنستون تشرشل، رئيس وزراء بريطانيا الراحل خلال الحرب العالمية الثانية، نجح في استباق الحساب عندما أطلق شعاره التبريري عند تسلمه منصبه: “ليس لدينا ما نُقدّمه سوى الدموع والتعب والعرق”، لكنه انتصر وابتكر إشارة النصر الشهيرة “السبابة والوسطى”، لكن الشعب شكره ولم ينتخبه، بل قال له: لقد تعبتَ وحان الوقت لترتاح وتترك غيرك يحكم .

وبعيداً من الواقع الأليم، وجدتُ شبهاً كبيراً بين السياسيين والحكّام ووعودهم العرقوبية، وبين العُشّاق الذين يبنون قصوراً في السماء ويَعِدون بالمنّ والسلوى، وحياة كلّها حب وورد وياسمين ورخاء.

لكن هناك فرقاً بين التشبيهَين لأن العشاق يُوَلّدون أجواءً من الفرح، ويزرعون الآمال رغم مصائب الحياة والأمر الواقع المرير، مثل قول العاشق لمحبوبته لا تخافي فأنا سوف أحميكي برموش عيني وهو أصلع أقرع بلا رموش … أو أن يَعِدَها بالفرج بعد سنين، مثل مسؤول عربي وعد الشعب بخطة إنقاذ بعد عشرين سنة لشعبه تشبّهاً بقصة الوالي الذي عرض كل ثروته على مَن يُعلّم حماره الكلام وإلّا يقطع رأسه، فقَبِل جحا التحدّي. ولمّا قيل له كيف تُقدِم على هذه المغامرة بحياتك؟ أجاب ضاحكاً: بعد عشرين سنة إمّا أن يموت الوالي، أو اموت أنا، أو يموت الحمار.

ومن الأكاذيب المُغَلّفة بكلمات رومانسية مُغرية والتمادي في حلاوة اللسان عند الشاعر الذي اشتكى من الفقر فقيل له: لا خَيل عندك تُهديها ولا مال فلتسعَد النطق إن لم تسعد الحال.

وأكثر الأكاذيب والتبريرات العاطفية جاءت على لسان المطرب العراقي الراحل ناظم الغزالي الذي عبّر عن عملية نصب العشاق للتهرّب من شراء الهدايا بحجّة ان أي هدية مهما كان ثمنها لا تليق بقيمة الحبيبة. يقول في أغنيته وهي من تاليف شريكه في النصب جبوري النجار :
أَيُّ شَيءٍ في العيدِ أُهدي إِلَيكِ
يا مَلاكي وَكُلُّ شَيءٍ لَدَيكِ
أَسِواراً أَم دُمُلجاً مِن نُضارٍ
لا أُحِبُّ القُيودَ في مِعصَمَيكِ
أَ خموراً وَلَيسَ في الأَرضِ خَمرٌ
كَالَّتي تَسكُبينَ مِن لَحظَيكِ
أَم وُروداً وَالوَردُ أَجمَلُهُ عِندي
الَّذي قَد نَشَقتُ مِن خَدَّيكِ
أَم عَقيقاً كَمُهجَتي يَتَلَظّى
وَالعَقيقُ الثَمينُ في شَفَتَيكِ
لَيسَ عِندي شَيءٌ أَعَزُّ مِنَ الروحِ
وَروحي مَرهونة في يَدَيكِ

وهكذا نجح الوَلهان في الإفلات من تقديم أي هدية لمحبوبته لكنه مع ذلك أهداها قصيدة رائعة يتغزّل بها ليخفي كذبه. والأكيد أن مثل هذه الحيلة صعبة هذه الايام، لأن الكذبة لن تَنطلي على أجيال هذا الزمن، فالهدية أوّلاً والباقي بعد ذلك.

ومهما كان حجم الكذب في ممارسات العشّاق، فإنه يبقى طريفاً ولا يؤذي إلّا اذا كان للغش والخيانة، بعكس أكاذيب السياسيين التي تتسبّب بالدمار والقتل ونزيف الدماء.

  • عرفان نظام الدين هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي عربي. كان رئيساً لتحرير صحيفة “الشرق الأوسط” السعودية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى