عَهْدٌ إعلامي لِزَمَنِ الأَزَماتِ : الكورونا نموذجاً!

بقلم الدكتور جورج كلّاس*

أثبتَتْ أزَمَةُ الكورونا الوبائِيَّةُ الجانِحَةُ، أَن الناسَ تَحَوّلوا بغالبِيَّتِهِمِ الى (مُجتمعاتٍ كلاميَّةٍ) تتعايشُ الخَوفَ تحتَ سقفِ الرُعبِ من هَجْمَةِ الجراثيمِ، بحيثُ باتَ السؤالُ-الهاجِسُ (هلْ من علاج؟) أوْ (مَنْ سَيموتُ أَوَّلاً؟) أوْ (متى الموت؟).!!
هذه الإرهاصاتُ المشروعةُ، تركَتْ كُلومَاً و نُدُوباً عميقةً في الوجدانِ الإنساني العام، الخائفِ على حالِهِ المَكشوفِ و المَرعوبِ من غَدِهِ المجهول، بحيثُ أصبحَ كُلُّ فَردٍ يرى نَفسَهُ ضَحِيَّةً مُفترَضًةً للوباءِ و مَشغولاً بملاحقةِ الحلول والعلاجاتِ الإفتراضيَّةِ، التي كثيراً ما تكونُ مُثقَلَةً بأخطاء تَقديرِيَّةٍ، أو مَشوبَةً بِتجاربَ اختبارِيَّةٍ لمْ تَثبُتْ صِحَّتُها بَعدْ…
لقد حَوَّلَتْ كورونا العالمَ من (قريةٍ كَونِيَّةٍ) تتواصَلُ وتتفاعلُ، الى (حَجْرٍ رُعْبِيٍّ ) مَأزومٍ، تَتَآكَلُهُ المخاوِفُ و مَسكونٍ بِهَمِّ النجاةِ من هذا الإعصارِ القاتِل.
إنَّ تِقَانَةَ الإعلامِ الشعبيِّ، والإنغِماسَ اللّاإراديِّ في حُمَّى التَواصلِ المَفْتوحِ في زَمَنِ الأزَمَاتِ الصِحِّيَّةِ الضاغِطَةِ، يَتَطَلَّبُ مِنَ هُواةِ الدَردَشَةِ والتدوينِ والتغريدِ والتراسُلِ، أَنْ يَتَبَصَّروا عَميقاً في خطَرِ ما يقومونَ بهِ من هواية النشر، بَعْدَ أَنْ أَمعَنُ البعضُ بإنتهاكِ الخصوصيّاتِ و خَدْشِ الأذواقِ و تَجريحِ الكراماتِ وعدمِ حِفظِ قواعِدِ اللَّياقاتِ، و إشاعةِ القَلَقِ مِنْ خِلالِ التَسَرُّعِ بِتَصديقِ ما يَقرأونَ و يَسْمَعونَ، والإسراعِ بِإعادَةِ النَشرِ مِنْ دونِ تَنَخُّلِ ما يَتِمُّ تَصديرُهُ مِنْ مُستَوْرداتِ لَفْظِيَّةٍ ومَشهَدِيّاتٍ مُصَوَّرَةٍ وتَسجيلاتٍ صَوتِيَّةٍ. وهذا ما يَزيدُ مِنْ حَالاتِ الإحْباطِ و يَدْفَعُ الى يَأْسٍ عَميقٍ، بسبَبِ ما قَدْ يُخَلِّفُهُ التَسَرُّعُ من إنعِكاساتٍ على المُتَلَقِّينَ ومُسْتَخْدمي وسائلِ التواصلِ في زَمَنِ التباعُدِ الصحِّي.
إِنَّ أبْرَزَ البُنودِ الناظِمَةِ لِعَهْدٍ إعلامِيٍّ مُقْتَرَحٍ وضَابِطٍ لِعَمَلِيَّاتِ التواصِلِ وأَخلاقِيَّاتِ الميديا الشعبية، لا بُدَّ مِنْ أَنْ يَتَمَحْوَرُ حَوْلَ مبادِئَ رَئيسَةٍ، أَهَمُّها :
١-الحِرصُ على سلامةِ المُستَعْلِم، وحِمايتُهُ؛
٢-التأَكُّدُ من صحَّةِ كُلِّ ما يَتُمُ نَشرُهُ، قَبلَ النَشْرِ والتوْزيعِ؛
٣-الإبتعادُ عَنْ الأخبارِ الزائِفَةِ؛
٤-مَعرِفَةُ كَيفيَّةِ إكتشافِ الأخبارِ المُضَلِّلَةِ، وعدمِ الإسهامِ بتَسويقها؛
٥-إعتمادُ مَصْدَرِيَّةٍ خَبريَّةٍ ذاتِ صِدْقِيَّةٍ؛
٦-تَحديدُ المَرجَعِيَّةِ الإعلاميّةِ المُتَخَصِّصةِ، لِكُلِّ وَضْعِيَّةٍ صِحِّيَّةٍ و مَعلومَةٍ طبِّيَّة؛
٧- عَدَمُ الإجتهادِ بِتَقديمِ حلولٍ واقتراحات، لأنَ دِقَّةَ الظَرفِ لا تَحتَمِلُ طَرحَ تَجارب إختبارِيَّة؛
٨-إن المسؤوليّةَ الأخلاقيةَ والإجتماعيّةَ، تَتطَلَّبُ تَعزيزَ المَعنَوِيَّاتِ و تَقوِيَةَ المَناعَةِ الإعلامية لدى مُستَخْدمي وسائلِ التواصلِ؛
٩-إن حُرّيةَ الإنتفِاعِ مِنَ المعلومة الخام التي حصلَ عليها المُدَوِّنُ، لا تُخَوِّلُهُ إعتبارَها سَبْقاً إعلامِيَّاً، نَظراً إلى خُطورَةِ ما قَدْ تَتَسَبَّبُ بِهِ من إنعِكاساتٍ مَفْتوحَةٍ على مَخاطِرَ مُجُتَمَعِيَّةٍ حَادَّةٍ، واعتبارُ انَّ الحِرصَ على المصلحةِ العامّةِ هو أهمُّ من تحقيقِ أَيِّ إنجازٍ خَبَرِيٍّ، أَوْ تَسويقٍ مُتَسَرِّع.

هذهِ القواعدُ المهنيَّةُ التي تُشكِّلُ مُسَوَّدَةَ تَفْكيرٍ، لِلتشارُكِ حولَ بنودِها، تُضفي شَيْئاً من الإلتزامِ التعاقُديِّ الحُرِّ بينَ الإعلاميينَ المحترفينَ والمُدَوِّنينَ والمُغَرِّدينَ والمُدَردِشينَ والمُتراسلين، وبينَ القارئينَ- الزبائنَ وتزيدُ من رصيدِ صاحبِ الحسابِ التواصلي، ومن تراكُمِ الثِقَةِ المُفتَرَضَةِ لدى المِنصاّتِ والمَواقِعِ، التي أَضحَتْ شريكةَ الناسِ في مُختلَفِ أحوالِهم و تَقَلُّباتِها.
وإِنْ لا بُدَّ من لَفْتَةٍ إيجابيَّةٍ في عَمليَّةِ تقويمِ الآداءِ الإعلامي الرسمي المرافِقِ لأزمَةِ الكورونا، فإنّ التقويمَ والتقديرَ واجِبَانِ للحكومة، حَيثُ التي أنشأتْ خليّةَ أزمةٍ مُتخَصِّصَةً، و حَدَّدَتْ لأوَّلِ مَرَّةٍ في تاريخ التعاطي الرسمي مع الأزماتِ ناطِقاً رَسمِيّاً ومَرجَعِيَّةً رَسميّة مُناطاً بِهِما حَصْراً إعطاءُ كُلِّ ما يُمكِنُ نَشْرُهُ و ما تَجِبْ مَعرِفتُهُ من معلوماتٍ مؤكَّدَةٍ بَعيداً منِ التأويلِ والتنَبُؤِ. وهذا ما أضفى ثقةً صدقيّةً على المعلومات والبياناتِ التي تصدرُ تِباعاً عن المرجعيَّةِ الطبيَّةِ المسؤولة.

  • الدكتور جورج كلاَّس هو أكاديمي وكاتب لبناني والعميد السابق لكلية الإعلام والتوثيق في الجامعة اللبنانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى