رُهَناء المَحابِس

بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر*

عليكَ أن تكونَ أقلّ تَبرّماً وأكثر هدوءاً يا صديقي، فَمَن يَدري إلى متى يستمر الحجر! يجب أن تتعلّم الجلوس بين أيدي أطفالك، وأن تُمارس روتين زوجتك المُمض، وأن تحكي لأطفالك الذين نَسيتَ لون عيونهم مغامراتك التافهة. ربّما يضحكون ملء أشداقهم، فلعلّهم ملّوا الشاشات المُشعّة مثلك. وعليك أن تحمد الله لأنه حين طالبتك السلطات بالبقاء في البيت، آويت أنت إلى رقعةٍ تحتويك، بينما بقي الآخرون، مِمَن كُتب عليهم الشتات من الميلاد إلى الموت، خارج تفاصيل بلادهم وحسابات ملوكهم ورؤساء دولهم.

“حتى في سيبيريا يُمكنك الحياة”، كانت صرخة سيمون العجوز في وجه تاتار البائس وهما يصطلان جذوة من النار في ليلة منفى باردة. نسيت أن أخبرك أن سيبيريا هذه منطقة روسية تقع شرق جبال الأورال، وقد اتُّخذت منفى للمُذنبين ومعتادي الإجرام والذين يُمكن تصنيفهم على أنهم خطرٌ على المجتمع الروسي، وأنهم الذين لا يجدون مَن يتوسّط لدى السلطات من أجلهم. أما سيمون وتاتار فهما شخصيتا القصة الرئيسيتان. والقصة “في المنفي” تُعدّ واحدة من أفضل القصص القصيرة في الأدب الروسي والتي ألّفها العبقري فرانز كافكا، ونشرها في العام 1894. فإن كان لديك وقتٌ للمتابعة – وأعتقد أن الوقت هو بضاعة الشعوب الكاسدة في كل بقاع العالم اليوم – فاسمح لي أن أقصّها عليك.

قرب مرفأ بارد، جلس الستيني سيمون، الذي تخلّت عنه أسنانه، يتجاذب أطراف المحنة مع شاب عشريني يُدعى تاتار. كان بإمكانهما أن يرقدا كالآخرين داخل الكوخ القريب، لكنهما لم يكونا يمتلكان غطاء هناك، كما أن فراشهما المصنوع من القش كان يؤلم الظهر والخاصرة. بالإضافة إلى أن العجوز لم يكن يرغب أن يشاركه شراب الفودكا أحد.

كان تاتار يكثر التأفف من وضعه البائس، فلا قمر ولا نجوم، ولا أمل في غدٍ مُختلف. مُجرّد ليلٍ طويل بارد يلفّه الصمت والأحاديث الرتيبة ودخان التبغ. كان النهر كالحاً وباردا ومظلما، وكانت أسماك السالمون والكركي تتقافز تحت غطائها الثلجي لتذكره بالعجز، ذلك الشعور الذي لازمه منذ حلّ ضيفاً على هذا المنفى. كان يتذكّر زوجته ذات السبعة عشر ربيعاً، وبيته الذي لم يكد ينتهي من بنائه حتى أمسكت به السلطات من دون وجهِ حقّ ليزجّوا به في هذا الركن القصي من العالم. ثم أنه لم يسرق خيول جاره، ولم يعتدِ بالضرب عليه. كان الجميع يعلم أن أخويه وعمّه هم الذين فعلوا ذلك، لكن عمّه استطاع بنفوذه أن يجد طريقه إلى جَيب القاضي، ليرافق هو أخويه إلى سيبيريا بدلاً منه.

أما سيمون، فكان يسخر من دموعه ويرى أنها لا تليق برجل: “إذا حدّثك الشيطان عن النساء أو المال، فابصق عليه. وإن حدّثك عن الحرية، فهدّده بقطع ذيله. لقد تخلّيت عن كل ذلك، ولا أرغب في حياة أفضل. لا تنظر إلي هكذا يا فتى، فما أنت إلّا غرّ أبله. لقد ترعرعت في بيت شمّاس، لكنني اليوم مستعد للنوم عاريا في أرض سبخة، آكل العشب كالقوارض وأشرب الفودكا، وأحمد الله على نعمه الوافرة”.

واستطرد العجوز، فقص على الشاب حكاية نبيلٍ يُدعى “فاسيلي سيرجيتش” اتُّهِم بالتزوير للإستيلاء على ممتلكات الآخرين، وحلّ ضيفاً عليهم. وكان الرجل ثرياً للغاية، فاشترى لنفسه بيتاً ومزرعة في مقاطعة موتنسكو. وكان يركض بحصانه ستة عشر ميلاً كل يوم ذهاباً وإياباً للبحث عن بريدٍ من زوجته. وذات يوم، جاءت زوجته إلى سيبيريا، وهي تحمل طفلة كالملاك. أنفق فاسيلي أموالاً طائلة على الرعاع هنا كي يُداوموا على زيارته حتى لا تشعر زوجته بالوحدة. لكن المرأة تحتاج في النهاية إلى العطور وأدوات الزينة ومرطبات البشرة. الخلاصة، هربت المرأة على أول زلّاجة مع صديق لزوجها. وظل الرجل يبحث عن زوجته، ويتوسّل إلى السلطات كي تعيده إلى وطنه ثماني سنوات، حتى باع بيته وأثاثه لليهود. ولسوء طالعه، سرعان ما ذبلت ابنته ومرضت بالسلّ. لم يترك الرجل طبيباً ولا مُشعوذاً إلّا ذهب إليه. “ولكن ما الفائدة. ستموت الفتاة إن عاجلاً وإن آجلاً، ولو أنه أنفق أمواله على الشراب لكان أجدى وأنفع!”.

صرخ تاتار في وجه سيمون: “إستطاع فاسيلي أن يحظى بقرب زوجته ثلاث سنوات، وبحضانة طفلته ثماني سنوات، أما أنت، فلست بشراً. الإنسان يُعاني ويتألّم ويفرح، أما أنتَ فمجرّد حجر لا حياة فيه. ليتني أحظى بلقاء زوجتي ولو يوماً واحداً، وليأخذني الشيطان بعدها”. وهنا يضحك سيمون، فغطّت شفتاه لثّته الزرقاء، ورسم قوس قزح لصديقه الغرّ مُتَّهماً إياه بأنه شابٌ نزق لم يجفّ الحليب فوق شفتيه بعد، ومضى مُتثاقلاً نحو الكوخ وهو يحمل زجاجة الفودكا بيمينه. وختاماً، يتناهى صراخ الشاب إلى أصحاب الكهف، فيسأل سيمون: “ما هذا؟” فيجيب رفاقه: “إنه تاتار”. “يا له من شاب غريب!”، ويستطرد العجوز: “سوف يتعوّد”. ويترك الرجلان باب الكوخ مُشرَّعاً رغم برودة الجو لأنهما لا يجدان في أنفسهما حاجة إلى إغلاقه. وتنتهي القصة ويبقى الباب مفتوحاً على مصراعيه.

يُمكنك يا صديقي أن تكون كسيمون، فتحمد الله على ما أنتَ فيه من حظرٍ ومنفى، وأن تتوقّف عن الرغبة في تسيير الريح حيثما تُوجّه سفنك. كما يمكنك أن تتمرّد على كل شيء وكل أحد، وأن لا تتوقّف عن التذمّر والشكوى والبكاء والتأفف كتاتار. ويُمكنك أن تُطارد حلمك وأن تُعلن العصيان على واقعك كما فعل سيرجيتش. لكن ما الفائدة! هل تظن أن الحياة ستتغيّر لمجرد قرار تتخذه في غرفة دافئة ذات حظر؟ قديماً قال كارنيجي: “نظر سجينان من شرفة السجن، فرأى أحدهما السماء الحالمة، والهلال الفضي، والسحب المُطرّزة، ونظر أحدهما إلى الأرض، فرأى الوحل والطين”. فاصنع من ليمونك الحامض شراباً، واستمتع به مع أسرتك في ليالي الحظر الدافئة والتي ندعو الله أن لا تطول، أو لا تلومَنّ إلّا شيطانك. فحظرٌ في صحة بين أولادك وذويك خير من غرفة باردة لا يُسمَعُ فيها إلّا الحشرجة والكحّة والسُعال.

  • عبد الرازق أحمد الشاعر هو كاتب وصحافي مصري. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: Shaer129@me.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى