عَولَمَةُ التَعليم تَمتَطي جَوَادَ “كورونا”

بقلم البروفسور بيار الخوري*

شَغَلَت قضيةُ التعليم عن بُعد مُعظم دول العالم مذ بدأت إجراءات الإغلاق المُتسارِع للحدّ من تفشّي وباء “كوفيد-19″. حوالي ملياري طالبة وطالب يَدرسون عن بُعد في عَالَمٍ لم يَختبر تجربةً شَبيهةً في أي حقلٍ من الحقول.

قبل الأزمة كانت نسبة ١٦% فقط من الشركات الأميركية تَقبل بعقودِ عمل بدوامٍ كامل عن بُعد حيث نسبة العمالة عن بُعد لا تتجاوز ٣% من حجم القوة العاملة.

اما بالنسبة إلى التعليم، فهناك ١٤% من الطلاب الأميركيين يُتابعون حصراً تعليمهم عن بُعد، و١٦% يُزاوجون بين التعليمين الكلاسيكي وعن بُعد، فيما أكثر من ٦٠% لا يُمارسون أي تعليم إلكتروني على الإطلاق.

تبلغ قيمة الإقساط السنوية في هذا المجال ٢٣ مليار دولار في أميركا الشمالية، منها ٢٠ ملياراً في الولايات المتحدة وحدها. بعض هذه الإيرادات تأتي من طلّابٍ دوليين.

وبسبب خضوع نظام التعليم عن بُعد لحَوكَمةٍ شاملة ضمن الولايات المتحدة وآلية اعتمادية للشهادات غير مُقارَنة عبر العالم، فإن أنظمة حَوكَمة التعليم عن بُعد في باقي الدول، باستثناء بعض  الإقتصادات الكبرى في الشرق الأقصى وأوروبا، لا زالت تتخبّط في مسيرتها حيث تتجاذبها البُنى المؤسسية والعقليات السائدة ضمن قادة الدول والأنظمة التعليمية.

لقد تقدّمت أميركا سريعاٌ في عَولَمة التعليم عن بُعد على منصات المواد المكثّفة المفتوحة على الإنترنت المعروفة ب” MOOC” حيث بدأت منصّات مثل “كورسيرا” توفير شهادات لمَوادٍ مُحَدَّدة من أرقى الجامعات الأميركية، واستدرجت بعدها نخبة من جامعات العالم.

على هذه المنصّات ستجد جامعات مثل “هارفارد” و”برنتستون” و”يال” و”هونغ كونغ” والمئات من كبريات جامعات العالم.

طوّرت الجامعات علاقتها تبعاً لتراكم التجربة على هذه المنصات لتعرض شهادات جامعية عن بُعد مُعتَرَف بها ومُعتَمَدة في الولايات المتحدة.

يطرح تطور نماذج التعليم عن بُعد، وضمنها منصّات المواد المُكَثَّفة، تحدياٌ لكافة أنظمة التعليم في العالم في أكثر من ٧٠% من الإختصاصات.

إن جائحة كورونا قد دفعت عَولَمة التعليم إلى جدول أعمال العالم سريعاٌ جداً ومُبكراٌ جداٌ على دول مانَعت طويلاٌ بالإعتراف بأن هذا الإستحقاق آتٍ لا مُحالة. إستحقاق وجد ولادته في اجتياح الوباء.

في كافة القطاعات بات العالم مُقتنعاً أن الزمن الآتي لن يكون كالزمن السابق، ولعلّ أكثر القطاعات استعصاءٌ على هذا المفهوم هو قطاع التعليم.

فهذا القطاع عبر العالم هو مزيجٌ من الشخصية القومية والخَلفية الثقافية، من مصالح سياسية ومجتمعية، من استثمارات مالية ضخمة، واخيراٌ من عقليات بيروقراطية لا يُمكن أن تستغني عن أنظمةٍ لحَوكَمة التعليم تراكمت عبر مئات السنين.

لذلك تأتي عَولَمة التعليم كاستكمال لصيرورة نزع الثقافة المحلية في كوكب باتت ٩٠% من بلدانه غير قادرة على إقناع شعوبها بجدوى هذا النوع من الإنغلاق الثقافي.

لذلك أيضاً تُجاهد هذه الدول اليوم في تبرير تَخَلّفها حتى اليوم عن اللحاق بالعالم في رقمنة التعليم، وهي حالياً تعتير التعليم عن بُعد لا أكثر من إجراءات مؤقتة.

تقبل الدول هذه الإجراءات مثلاٌ ولا تقبل النقاش في تقنيات الإمتحان عن بُعد، والإمتحان الصفّي هو خط الدفاع الأخير والأكثر صلابة.

ماذا لو اعترفت دول العالم بصحّة الإمتحان عن بُعد؟ ماذا ستكون الخطوة التالية؟ إعتمادية للشهادات عن بُعد. ثم ماذا؟ سقوط الهياكل العظمى ومعها مجموعات المصالح والبناء البيروقراطي.

لنتخيّل أن مُتقدّماً لوظيفة في الشركة جاء حاملاٌ شهادة غير مُعتَمَدة في بلده من جامعة “إيلينوي” الأميركية، وينافسه حامل  شهادة شبيهة مُعتَمَدة محلياٌ. مَن سيحصل على نقاط أكثر في المقابلة بافتراض تعادل العناصر الأخرى؟ الجواب واضح.

الأنظمة التعليمية مَدعوّة لإنتاج استراتيجيات وطنية وتخصيص موازنات غير مسبوقة، والإستثمار باللغة المحلية في التعليم ومواد الثقافة المحلية في هذا القطاع. هذا وحده كفيل بالحفاظ على المرجعية الوطنية وعدم ابتلاع عَولَمة التعليم لها.

  • البروفسور بيار الخوري أكاديمي لبناني، كاتب في الإقتصاد السياسي ومتخصّص بالتعليم عن بُعد من جامعة كاليفورنيا إيرفاين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى