العطاء بين مصطفى الغلاييني وجبران خليل جبران

بقلم هنري زغيب*

 لم تَعُد جديدةً إِشادتُنا بالبادرة التي قامت بها نبيلةً دولةُ ال”أم تي في” (MTV) في لبنان برئاسة ميشالها الْمُر و”صيرورة وقت” مرسالها الغانم. فالإِشادات الْمُحقَّة العرفانية وَسِعَت مدى صفحات الصحافة ومنصَّات التواصل. وسوف يجيْءُ وقتٌ، متوسطٌ أَو بعيد، ينسى فيه الناس أَسماء المُتبرّعين وأَرقامَ تبرّعاتهم وتقْدِماتهم، لكنهم لن ينسَوا حضورَ البادرة الـ”إِمْ تي ﭬـيَّة” مُقابلَ غيابِ أَوقافٍ وحكَّام ومسؤُولين لم يبادروا إِلى تقديم ليرة واحدة من مال الشعب يعيدونها إِليه بعدما نهبوها منه صَفاقةً وصَغارةً وحَقارة.

كما لن يَنسى الناسُ انهمالَ موجةِ التضامُن والتعاوُن والتكافُل والأُخُوَّة الإِنسانية في صفوف نُبلاء من الشعب اللبناني بادروا إِلى العطاء مثْبتين ارتفاعَهم إِلى سموِّ القيَم.

أَقول القيَم، وأَقصُد أَعلاها: الإِيمان. وأَقول الإِيمان وأَرفُدُه بأَرقاهُ: الإلتزامُ بتطبيقه مُزاوَلةً وطقوسًا. فلا إِيمانَ بلا مزاولة وطقوس، وإِلَّا بقيَ تنظيرًا مجانيًّا ليس يُجدي ولا يبلغُ سماءَ جدواه.

وأَيُّ جدوى من التقوى إِذا بقيَت قولًا في صلاةٍ ولم تقترن بالفعل الإِيماني؟

والفعل الإِيماني هو الْمُنبسِط على يد الخلاص تمتدُّ من الإِنسان إِلى الإِنسان عند حاجاته القصوى، فيكون الفعل هو الإِيمان. وهذا يُذَكِّرني بعبارةِ جبران: “مَن يعطي قليلًا مِن كثيرِ ما لديه، هو طالبُ شهرة. ومَن لديه القليلُ ويعطيه كلَّه، هو السخيُّ النفْس والقلب. فالسخاءُ ليس أَن تعطيني ما أَحتاجُه أَكثرَ منكَ بل ما تحتاجُه أَنتَ أَكثر مني” (فصل “العطاء” من كتاب “النبي”).

وسْط محنتنا المحلية والعالمية الحالية، نحن اليومَ في هذه الصورة: نحتاج فعْل الخير والمبادرات والتضامن البشري في العطاء، فتضيع الأَنانية وتضوع الإِنسانية أَمَلًا بالفجر الآتي مثلما أَريجُ الزَهر يُذَكِّر بمواسم الربيع ويبشِّر بالولادات الجديدة.

يأْخذني هذا الأَريج إِلى كتابٍ مطبوعٍ في بيروت قبل 110 سنوات: “أَريجُ الزهر” للشيخ مصطفى الغلاييني (صدَر سنة 1910) ومنه فصل “أَقَحْطُ رجالٍ أَم قَحْطُ وجدان؟” جاء فيه: “الأَغنياءُ لو راعوا وجدانَهم وخدَموا الأُمَّةَ بأَموالهم المكنوزة في الصناديق وأَفاضوا عليها من وابل الإِحسان، لَنَهَضَت الأُمَّة وقامت من عثْرتها. ولكنهم عن ذلك غافلون وبِتَرَفهم منهمِكون. ولو حرَّضْتُهم لِيَنْفَحوا بجزْءٍ من أَموالهم لَلَوَوا رؤُوسَهم وهُم مُعْرضُون. هل نقول: ليس عندنا رجالٌ أَغنياء؟ بل نقول: ليس لأَغنيائِنا وجدان. الحكَّام فوَّضَت الأُمَّةُ إِليهم أُمورَها، ثم بَصُرَت بهم فإِذا بهم حادوا عن سبيل الرَشاد منفعةً أَو رياء“.

اليوم، بعد 110 سنوات، ما زال الحكَّام هُمُ الحكَّام والأَغنياءُ هم الأَغنياء، وما أَبعدَ مُزَيَّفيهم عن القيَم.

بلى، قلتُ القيَم وأَقصُد أَعلاها: الإِيمان. وقلتُ الإِيمان وأَرفدُه بأَرقاه: الإلتزامُ بتطبيقه مُزاوَلَةً وطقوسًا. فلا إِيمانَ بلا فعْل مهما تَضرَّع المؤْمنون في كنيسة وابتهل المصلُّون في مسجد، وإِلَّا بقيَ إِيمانًا نَظريًّا خارج الإِرادة.

ورأْسُ هذه الإِرادة: إِقرانُ الإِيمان بالفعْل الإِنساني. وهكذا نستحقُّ نعمة الإِيمان.

 

  • هنري زغيب شاعر، أديب وكاتب صحافي. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني التالي: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه: henrizoghaib.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى