الإقتصاد العسكري في مصر يتوسّع بشكل كبير على حساب الإقتصاد الخاص

تحت مُسمّى حماية الأمن القومي، تمنح قوانين واتفاقات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الإقتصاد العسكري سيطرة بعيدة المدى على مقدرات البلاد.

الرئيس عبد الفتاح السيسي: يُحاول تلميع صورة المؤسسة العسكرية.

 

بقلم محمود خالد*

في الثالث من شباط (فبراير) الفائت وقّع صندوق مصر السيادي في مصر إتفاقية تعاون مع جهاز مشروعات الخدمة الوطنية، في محاولة من القوات المسلحة لتهيئة بعض الأصول التابعة للجهاز للإستثمار المحلي والأجنبي، وتوسيع قاعدة ملكيتها. تأسس جهاز مشروعات الخدمة الوطنية للقوات المسلحة، في عهد الرئيس الراحل أنور السادات، لضمان تحقيق الإكتفاء الذاتي من احتياجات القوات المسلحة، مع طرح فائض الإنتاج في السوق المحلية والمُعاونة في مشروعات التنمية الإقتصادية للدولة كمشروعات البنية الأساسية والمشروعات التنموية في المحافظات الحدودية. وفي عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي توسّعت صلاحيات الجهاز وأصبح المُحرّك الأكبر لاقتصاد البلاد من خلال مشاركته في كافة المجالات الحياتية ومنافسته للقطاع الخاص .وبفضل مرسوم صادر، فإن الصندوق، المُوقِّع حديثاً على الإتفاقية، مَحمي من الطعون المدنية، وذلك من أجل تعزيز خطط الرئيس لخلق اقتصاد عسكري مصون.

والمرسوم أو القانون رقم 177 لعام 2018، الذي صدّق عليه الرئيس السيسي، يستهدف تنمية موارد الدولة واستغلال أصولها، بما في ذلك الشركات والمصانع الحكومية المُغلقة أو غير المُستَغَلّة التي تُحقق أرباحاً مُنخفضة. وفي 26 كانون الأول (ديسمبر) 2018، وافق مجلس الوزراء المصري على تعديلات على القانون، تمنح رئيس الجمهورية الحق في نقل مُلكية أيّ من الأصول غير المُستَغَلّة المملوكة للدولة إلى الصندوق، مع قصر الطعن على قرارات الرئيس على المالك أو الصندوق الذي ينقل ملكية ذلك الأصل فقط – من دون الآخرين. ووفقاً للتعديلات، لا يُسمح لأي شخص بتقديم مطالبات بطلان العقود التي أبرمها الصندوق. وتلتزم المحاكم من تلقاء نفسها بعدم قبول الطعون أو المطالبات المُتعلقة بهذه النزاعات. ويحق أيضاً للصندوق، بقرار من الرئيس، امتلاك الشركة أو المصنع بالملكية المنقولة حديثاً، وبيعه لأي مستثمر أجنبي من دون أيّ صعوبات. بمعنى آخر، إذا تم تحويل ملكية أي شركة حكومية إلى الصندوق، ثم قام الصندوق ببيع الشركة إلى مستثمر أو وضعها في البورصة، فلا يحق لأي مواطن الإعتراض أو الطعن بذلك.

وسارعت وسائل الإعلام الحكومية للإحتفاء بالخطوة، مُؤكّدة أنها تصب في صالح الإقتصاد والبورصة والمواطن. وتستهدف الإتفاقية تنشيط سوق المال الراكدة وإعادة إنعاش البورصة التي شهدت تراجعاً ملحوظاً خلال الآونة الأخيرة، إلّا أن هذا التحرّك يكشف حالة “فقدان الثقة” والتخبّط التي يُعانيها النظام. وتأتي الإتفاقية بعد انخفاض كبير في الإستثمارات وزيادة حادة في الديون على مدى السنوات القليلة الماضية، على الرغم من الإصلاحات الإقتصادية المؤلمة التي يُحرّكها صندوق النقد الدولي وتُنفذّها الحكومة المصرية، ولم تؤتِ ثمارها حتى الآن، مما وضع الحكومة في حالة غير مستقرة. وسبق للبنك المركزي أن أعلن عن تراجع صافي الإستثمار الأجنبي المباشر في مصر بنحو 1.8 مليار دولار، وبنسبة انخفاض 23 في المئة خلال العام المالي 2018-2019، مُسجّلاً 5.902 مليارات دولار، مقارنة بـ 7.719 مليارات دولار في العام المالي السابق له 2017- 2018. ووفقاً للتقارير الرسمية الصادرة عن البنك المركزي، إرتفع الدين الخارجي بنحو 16.1 مليار دولار، ليصل إلى 108.7 مليارات دولار في نهاية حزيران (يونيو) 2019، بزيادة 17.3 في المئة  عن نهاية حزيران (يونيو) 2018. ودفع هذا الوضع الإقتصادي المتدهور، النظام إلى إعادة بناء سمعة الجهاز، التي تأثرت كثيراً من الحملة الشرسة التي دشنها المقاول محمد علي.

وتأتي الإتفاقية، بعد دعوة السيسي، خلال مؤتمر افتتاح مصنع الغازات الطبية والصناعية رقم 3 التابع لشركة النصر للكيماويات، في تشرين الأول (أكتوبر) 2019 إلى طرح شركات الجيش في مختلف المجالات المتعلقة بالبنية التحتية والشركات الزراعية في سوق الأسهم المصرية، حيث قال: “يجب على هذه الشركات أن تدخل البورصة وتصبح هناك فرصة للمصريين لكي تكون لديهم أسهم فيها، ونفتح باب المشاركة المجتمعية في هذه الشركات”. وجاءت دعوة السيسي رداً على سلسلة من الفيديوهات التي بدأ المقاول محمد علي نشرها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، في 3 أيلول (سبتمبر) الفائت، حيث حظي الفيديو الأول منها على ما يقرب من 1.7 مليون مشاهدة، كشف فيها عن وقائع فساد مالي داخل القطاعات الاقتصادية والهيئة الهندسية للقوات المسلحة، التي تساهم في مشاريع البنية التحتية في جميع أنحاء البلاد، من واقع عمل شركة أملاك للمقاولات التي يمتلكها مع القوات المسلحة طيلة 15 عاماً.

ودفعت مقاطع الفيديو، وما كشفته من وقائع الفساد، السيسي للرد مباشرة على الإتهامات المُوجَّهة ضد الجيش، في محاولة لتبرئة المؤسسة العسكرية من اتهامات علي، حيث قال: “والله هذا كذبٌ وافتراء… الجيش مؤسسة مُغلقة وحسّاسة جداً لأي سلوك “مش مظبوط”، خصوصاً لو قيل على القيادات”. بالإضافة إلى ذلك، سعى السيسي إلى تبرئة المؤسسة العسكرية، بطرح شركاتها في البورصة على مرأى ومسمع المصريين والقطاع الخاص، ومع ذلك، فإن هذا الطرح يواجه عقبات تَحول دون تنفيذه.

يتطلب إدراج أي شركة في البورصة، إستيفاء شروط عدة، من بينها معرفة رأس مال الشركة، وأرباحها، ومن أين يأتي تمويلها، وأين تذهب الأرباح، وطبيعة دفعها للضرائب، في حين أن هذه الشروط قد تكون عقبات طفيفة أمام الشركات التابعة لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية، فلا يجوز لأي فرد أو مؤسسة الإضطلاع عليها، فغالباً ما يرفض المسؤولون الإفصاح عن مراكزها المالية ومصروفاتها ونفقاتها، بدعوة الحفاظ على “الأمن القومي”، رغم أن أنشطة الشركات مدنية وتخاطب المواطنين ولا تتعلق بأي أنشطة عسكرية.

إن الإقتصاد السرّي للقوات المسلحة، ليس جديداً. منذ عقود، كان يعمل الجيش في سرية غير محدودة تُحيط بنشاطه الإقتصادي، في ما يتعلق بأرباحه ومدى مدفوعاته الضريبية، وحجم استثماراته، ورأس ماله. والأكثر من ذلك، لم تتمكن أي جهة رقابية من تحدّيها، بما فيها الجهاز المركزي للمحاسبات، أعلى سلطة رقابية في مصر. خلال مقابلة تلفزيونية في العام 2012، قال المستشار هشام جنينة، رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات آنذاك، إنه عاجز عن رقابة المنشآت الإقتصادية للقوات المسلحة التى لا علاقة لها بالأمن القومي والتي لا تتطلّب السرية الشديدة.من الأمثلة البارزة على ذلك قيام القوات المسلحة بتأجير قاعات للأنشطة المدنية، مثل حفلات الزفاف وأعياد الميلاد، مقابل مبالغ مالية دون أي رقابة. وقال جنينة: “ليس مقبولاً أن لا يستطيع الجهاز المركزى للمحاسبات مراقبة قاعات الأفراح التابعة للقوات المسلحة. مُتسائلاً ما علاقة قاعات أفراح القوات المسلحة بالأمن القومى؟”.

في العام 2018، أصدرت الحكومة أيضاً “قانون العاقد” رقم 182 لعام 2018، الذي يسمح بإعفاء الجيش والشركات العسكرية من الرقابة والمحاسبة. وينص على أن تنفيذ العقود، من دون اتباع المُناقصة العامة، بهدف “حماية الأمن القومي”، ما يسمح لهذه الجهات بالسرية المطلقة في عقود البيع أو الشراء أو الأرباح، ما يؤدي إلى غياب الشفافية وانعدام المنافسة مع القطاع الخاص. وهذا يعني أن الشركات العسكرية، تحت ستار الأمن القومي، قادرة على الحصول على الشركة أو قطعة الأرض من دون الكشف عن سعرها للمستثمرين الخارجيين. ويسمح القانون في نهاية المطاف لهذه الشركات بالسرية المطلقة في شرائها وبيعها وتحقيق أرباح عامة من العقود. ويؤدي ذلك بالطبع إلى انعدام الشفافية والمنافسة مع مع القطاع الخاص. وفي حين أن هذه الممارسات مُستمرة قبل العام 2018، إلا أن هذا القانون عزّز من عدم القدرة على مراجعة الشركات المملوكة للجيش، مما جعل هذه الممارسة غير قانونية في نهاية المطاف.

وفي عهد السيسي، زادت إمبراطورية الجيش الإقتصادية، وأصبحت تعمل الآن في تجارة الألبان والأدوية ووسائل النقل، وصارت تضم نحو 2300 مشروع يعمل فيها 5 ملايين موظف مدني، في مجال الصناعات الثقيلة والمُتخصّصة، وقطاعات الزراعة، والمزارع السمكية، والمحاجر والمناجم، والمقاولات، والبنية التحتية وغيرها من المشروعات العملاقة في الدولة، بحسب المتحدث العسكري للقوات المسلحة العقيد تامر الرفاعي. إن إصرار السيسي على الطرح في الإكتتاب العام، وهو يعلم جيداً صعوبة تنفيذ ذلك، يشير إلى رغبته في غسل سمعة المؤسسة العسكرية، وتبرئة ساحتها من اتهامات الفساد وإهدار المال العام، والسيطرة غير الخاضعة للمساءلة على اقتصاد الدولة.

ويأمل السيسي أيضاً في إرضاء صندوق النقد الدولي، الذي عبّر عن مخاوفه بشأن المشاركة العسكرية في الإقتصاد. ويعتقد صندوق النقد الدولي أن هذه المشاركة تخلق منافسة غير عادلة، مما قد يعوق الإستثمارات الأجنبية أو المحلية الجديدة. وأبدى النائب الأول للمدير العام للصندوق دايفيد ليبتون، تحفّظه، خلال زيارة بعثة الصندوق إلى مصر لمراجعة الإجراءات الخاصة ببرنامج الإصلاح الاقتصادي، من توسّع عمل شركات مملوكة للقوات المسلحة، تحت كيانات تبدو ظاهرياً ملكيات خاصة.

إن السيسي يريد تشجيع الإستثمار الخاص الأجنبي. ويرسل الإكتتاب العام رسالة مفادها أن جميع قطاعات الإقتصاد المصري بما في ذلك الصناعات التي يحتكرها الجيش، والتي تحقق أرباحاً كبيرة حتى الآن، مفتوحة الآن للمستثمرين الأجانب. وعلى الرغم من جهود الحكومة المستمرة لتشجيع الإستثمار، من خلال الإكتتاب العام، وحزمة الإصلاح الاقتصادي الجريئة، فإن الدين الخارجي مستمرٌ في التراكم، والإستثمار الأجنبي المباشر آخذ في الإنخفاض، ولا يزال المستثمرون ينفرون من السوق المصرية. وعلى هذا النحو، فإنه من غير المحتمل أن تؤدي جهود النظام لتشجيع الإستثمار، إلى الشفافية على تدخل الجيش في الاقتصاد. وستظل “حماية الأمن القومي” حجة لتبرير أي سياسات إقتصادية مُستقبلية قد يتّبعها النظام.

  • محمود خالدصحافي مصري متخصص في الشؤون العربية والدولية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى