عن إِذْنك “خواجة” بيكاسو (2 من 3)

جيسيكا جاك بي الخبيرة بسيرة بيكاسو

هنري زغيب*

في الجزء الأَول من هذه الثلاثية عن بيكاسو (1881-1973)، مقدمة عامة عن مطالع بيكاسو الكلاسيكية وكيف التقى الكاتبة اليهودية الأميركية جرترود شتاين (1874-1946) وغيّرت مساره من الكلاسيكية إِلى التكعيبية، مخرجة إياها إلى ما سمته “أُسلوبه الجديد”، فخرج إلى محاولات أُولى ظهرت ملامحها في رحلة قام بها مع عشيقته الأولى وموديله الرسامة الفرنسية فرناندا أوليفييه (1881-1966) إلى بلدة نائية عالية معزولة في أعلى جبال البيرنييه من الناحية الإسبانية.

في هذا الجزء أكشف عن تفاصيل ما جرى في تلك الرحلة المفصلية وانعكاسها في مسيرة بيكاسو.

كتاب جيسيكا عن بيكاسو في غوزول

إِلى غوزول Gosol

يستند معظم ما في هذا النص إِلى مقاطع وردت في كتاب “بيكاسو في غوزول سنة 1906” للباحثة الإسبانية جيسيكا جاك پــي (م.1967)، أُستاذة الجماليات والنظريات الفنية في جامعة برشلونة. صدر كتابها سنة 2007 ولا يزال أَفضل مرجع عن بيكاسو حول تلك المرحلة المفصلية المهمة من سيرة بيكاسو وانعطافة مسيرته الفنية. وأَكثر: تذهب جيسيكا إِلى اعتبار تلك المرحلة مفصلية حتى في تاريخ الفن.

نحن سنة 1906، أَمضى منها بيكاسو 80 يومًا منعزلًا في غوزول مع عشيقته الأُولى زمنيًّا فرناندا أَوليفييه، وهي رسامة فرنسية بدأَت موديلًا لبيكاسو ثم أَصبحت عشيقته. وهو يعتبرها أَول حب في حياته. وهما في السن ذاتها: 24 سنة.

ولأَهمية تلك المرحلة الباكرة، يقيم حاليًا “متحف الملكة صوفيا” في مدريد معرضًا للوحات بيكاسو في تلك الفترة (بعنوان: بيكاسو 1906 “المنعطف”) بدأَ منذ الخميس الماضي 16 تشرين الثاني/نوفمبر الحالي، ويستمر إِلى 7 شباط/فبراير 2024.

هكذا: 80 يومًا في تلك البلدة الصغيرة النائية، على الجانب الإِسباني من جبال البيرينيه نزَعَت بيكاسو من كل ما رسم قبلها، وحوَّلتْه إِلى مرحلة جديدة راحت تتطور في باله وقناعاته إِلى ما بلغه لاحقًا من أَعمال وشهرة.

فرناندا أُولفييه عشيقة بيكاسو الأُولى

أَين هي غوزول؟

هي بلدة صغيرة في أَعلى جبال البيرينيه، تبعد عن برشلونة نحو 150 كلم، وتعلو نحو  1450 مترًا، يتطلب بلوغها المرور بمنعطفات ضيقة وخطرة. صعد إليها بيكاسو مع فرناندا أُوليفييه في أَيار/مايو 1906. قصدها مع كلبه (“فوكس تيريير”) ممتطيًا عربة بدائية تجرها بغلة قوية، ثم غادرها لاحقًا بالطريقة ذاتها في 23 تموز/يوليو عائدًا إِلى باريس.

كان بيكاسو فترتئذٍ بدأ يخرج من سرعة رسمه اللافتة حين كان يصوِّر فوتوغرافيًّا صديقته وراعيته جرترود شتاين. لذلك، حين عاد من غوزول، كانت في باله تصوُّرات جديدة لمسيرة ريشته، وهي التخلي عن الكلاسيكية (ولو انه نجح فيها) والتحوُّل صوب الحداثة التي كان بدأَ بها في باريس بول سيزان (1839-1906) وإِدوار مانيه (1832-1883) وهنري ماتيس (1869-1954).

فرناندا شريكته في رحلة غوزول

بدايات التحوُّل

بدأ تحوُّلُه منذ أَعاد العمل على لوحته عن جرترود، نازعًا عنها جميع الخطوط الكلاسيكية المأْلوفة، وراح يعيد رسم ملامحها بالأُسلوب التكعيبي الذي يخرج عن نقل الطبيعة كما هي. مع تلك اللوحة بالذات يمكن تأْريخ مرحلته الزهرية.

بعدها، وبأُسلوبه الجديد ذاته، رسم سنة 1907 لوحته الضخمة “صبايا أَفينيون” (250 x 215 سنتم) فأَثارت جدلًا لأَنها قطعت نهائيًّا كلَّ صلة بأُسلوب بيكاسو قبلها، وفتحت له خطًّا تشكيليًّا جديدًا، استساغه البعضُ لجديده، وَرَفَضَهُ البعض لِما جاء فيه من تشويه في رسم الوجُوه والأَجساد.

في كتاب جيسيكا “بيكاسو في غوزول 1906” تركيز على المرحلة الزهرية. وهو أَفضل مرجع حتى اليوم عن بيكاسو في تلك المرحلة، وخصوصًا فترة الأَيام الثمانين في غوزول.

ترى جيسيكا أَن اسم بيكاسو كان، قبل رحلة غوزول، بدأَ ينتشر في الأَوساط المحيطة، خصوصًا بفضل شبكة العلاقات التي أَمّنتْها له جرترود شتاين منذ لقائهما في تشرين الثاني/نوفمبر 1905. فهي كاتبة أَميركية يهودية ثريّة كان لها تأْثير بالغ في انعطافة بيكاسو إِلى التكعيبية التي أَودَت به إِلى “خربطة” جميع المقاييس الكلاسيكية الجمالية.

تأثير جرترود

قبل لقائه بجرترود كان بيكاسو يتحرك ضمن حلقة فنانين بوهيميين في مونمارتر. ومنذ لقائه بها راح يتنقَّل في حلقات منتقاة إِذ رحت تدعوه إِلى “لقاءات السبت” لديها، حيث تعرَّف بماتيس وسيزان وبعض الطليعيين يومها في باريس ممن كانوا يوقِّرون جرترود ويتأَثرون بها وبكتاباتها عمّا سُميَت “التكعيبية”. وبفضلها راح بيكاسو يبيع لوحاته عبر وسطاء كانت هي تؤَمنهم له، أَبرزهم اليهودي دانيال كَهْنْوَايْلِر، ما أَمَّن للرسام الفقير الحال مدخولًا مهمًّا من أَعماله، فتخلّى عن بوهيميي مونبارناس وانعطف إِلى حلقات جرترود وروادها الذين حملوه معهم إِلى الوجهة الدولية في تسويق لوحاته، بدليل أَنه، بفضل جرترود، تمكَّن بين 1911 و1912 و1913 من عرض أَعماله في نيويورك وبرلين وميونيخ، ما وسّع شهرته ولم يعُد “غريبًا” (إِسبانيًّا) كما كانت صفتُهُ في حلقات باريس الفرنسية عند فجر القرن العشرين.

لماذا غوزول؟

تعدَّدت التقديرات لانسحاب بيكاسو مع عشيقته فرناندا أُوليفييه إِلى غوزول النائية المعزولة: منها أَنه كان مصابًا بالسفلس، أَو أَنه مدمن على الأُفيون ويود التوقُّف، أَو أَنه رغب في تعريف عشيقته بأَهله (القريبين من برشلونة) قبل أَن يصعد معها إِلى غوزول التي نصحه بالصعود إِليها بعض أَصدقائه الكاتالانيين.

وتؤَكد جيسيكا، وهي الأُولى في كشف ذلك، أَن فرناندا كانت أُولى عشيقاته، وسوف يهيّئ “متحف بيكاسو في برشلونة” معرضًا خاصًّا سنة 2024 للَّوحات الكثيرة التي جلسَت فرناندا مراتٍ كثيرةً أَمام بيكاسو كي يرسمها.

من هي فرناندا؟ ما تأْثيرها في حياة بيكاسو؟ وكيف انتهت علاقتها به؟

هذا ما أَكشفه في الجزء الثالث من هذه الثلاثية.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى