حُرِّيَّةُ المِلاحَة أم الدِفاعُ عن إسرائيل؟

سليمان الفرزلي*

باتت المحاولات الأميركية والأوروبية لاحتواءِ الوَضعِ في البحرِ الأحمر أكثر دقّةً وحساسية بعد الضربات الجوية الأخيرة ضد اليمن. ومما زاد من حساسيتها مُصادَرة إيران في مضيق هرمز لحاملة نفط تنقل شحنة أميركية، ردًّا على مصادرة الولايات المتحدة سابقًا لشحنةٍ إيرانية اعتبرتها طهران “عملية سرقة موصوفة”. لكن ما يُعقِّدُ المشكلة في البحر الأحمر، أنَّ النيّاتَ الأميركية المُعلَنة من حيث عدم الرغبة في توسيع رقعة الصراع في المنطقة، دخلت حاليًا في نقطةٍ حَرِجة، لتنتقص من المصداقية الأميركية من حيث الرغبة المُعلنة في احتواء الصراع.
ومن الأسئلة التي تُطرح هي تلك التي تُثيرُ القلقَ والشكّ، في البلاد العربية خصوصًا، من حيث عرقلة الولايات المتحدة لجميع المساعي الدولية لوقف القتال في قطاع غزّة، بما في ذلك استخدام حق النقض (الفيتو) أكثر من مرّة ضدّ أي قرار يدعو إسرائيل إلى وَقفِ الحرب وفتح باب المساعدات الإنسانية إلى الشعب الفلسطيني المُحاصَر، والمُعَرَّض لأنواعٍ شتَّى من الأخطار المُهدّدة للحياة في كلِّ لحظة منذ أكثر من ثلاثة أشهر. وفي الوقت الذي تُوَسِّعُ واشنطن وحلفاؤها دائرة الحرب في البحر الأحمر، بحجّة الدفاع عن حُرِّية الملاحة، يبدو الصمتُ مُطبِقًا حيال تصريحات رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو المُتَكَرِّرة بأنَّ حربه في غزّة سوف تستمر لأشهرٍ عدّة مُقبلة.
وبذلك يكونُ التوازنُ الحَرِج الذي يزعمُ الغربيون أنّهم يرغبون فيه كوسيلةِ احتواء لمَنعِ تمدُّدِ الحرب في المنطقة، غايته دعم إسرائيل في إطالة حربها ضد الفلسطينيين، وتجريد حركات المقاومة ضد إسرائيل في الجبهات المُحيطة من فاعليتها، سواء بمواجهتها عسكريًا كما يحدثُ في اليمن، أو بالضغط الديبلوماسي كما يحدثُ في لبنان، وإلى حدٍّ ما في سوريا والعراق. فما يحدثُ الآن على مختلف الجبهات المفتوحة على كلِّ الاحتمالات، بفعلِ التوتّرِ الحاصلِ في البحر الأحمر من جرَّاء التأثير السلبي على الملاحة العالمية، لا يُنبِىء بأنه من قبيل التوازن بين الديبلوماسية والحرب، بقدرِ ما يشي بأنه نوعٌ من “التناوب” بين وسائل الضغط في اتجاهٍ واحد. فالضغوطُ الظاهرة الآن تبدو في اتجاهاتٍ مختلفة وعديدة باستثناء وجهة واحدة، هي الجهة التي ما زالت ترفضُ أيَّ مسعى لوقف الحرب في غزة، بل تُعلنُ عزمها على الاستمرار فيها لأشهرٍ عديدة.
وبالنظر الى دقَّةِ الوضع، من زاوية الموقف الأميركي المُبهَم، فإنَّ المُعادَلة الأسهل على الجميع تقول بأنَّ أقصرَ الطُرُقِ الى استبعاد توسعة مسرح الحرب، هو وقف الحرب. وطالما أنَّ وَقفَ الحرب حتى الآن، وربما إلى أمدٍ طويل في المستقبل المنظور، ليس مطروحًا بصورةٍ جديَّة من قبل أميركا وحلفائها، فإنَّ ذلك يُلقي شبهة على موقف الأميركيين والأوروبيين، بأنهم يدفعون الأمور ببطء نحو الحرب الشاملة. فكيفَ يُمكِنُ للأطرافِ المَعنيّة أن تكونَ ذات صدقية في زعمها بأنها تسعى إلى مَنعِ اتساعِ رقعة الحرب، من غير أن تسعى إلى إطفاء شعلة الحرب في مهدها؟!
وبالتالي، فإنه من حقِّ أيٍّ كان أن يشتبه بحلفاء إسرائيل وداعميها في الولايات المتحدة وأوروبا، بأنهم لا يدافعون عن حرّية الملاحة في البحر الأحمر، بقدر ما يدافعون عن إسرائيل.
ومن ناحيةٍ ثانية، فإنَّ موضوعَ الملاحة في البحر الأحمر ليس هو الموضوع الاستراتيجي الأوّل في الصراع القائم حول اليمن. ذلك أنَّ صنعاء تعرَّضت لحربٍ لا تقلُّ عنفًا ودمارًا عن حرب غزّة ولسنواتٍ عديدة بدون هوادة، وكانت الولايات المتحدة طرفًا خلفيًا فيها، ومن غير إبداءِ أيِّ اهتمامٍ أو اعتبارٍ لليمن أو اليمنيين، على غرار ما يفعلون الآن بالنسبة إلى الفلسطينيين في غزّة. مع أنَّ عمليات اليمنيين في البحر الأحمر لا تستهدف الملاحة العالمية، بل تستهدفُ فقط السفن المُتَوَجِّهة إلى إسرائيل ومنها، والتجارة الإسرائيلية عبر البحر الأحمر لا تُشَكِّلُ سوى نسبة ضئيلة جدًا من حجم التجارة العالمية التي تمرُّ في مضيق باب المندب، أو في قناة السويس.
حتى ليبدو أنَّ دعوى حرية الملاحة في البحر الأحمر هي مجرّد ذريعة ليس إلّاَ. ذلك أنَّ المنطقة اليمنية عند باب المندب تقع على مسافةٍ قصيرة قبالة جيبوتي على الشاطئ الإفريقي من البحر الأحمر، حيث لفرنسا وللولايات المتحدة قواعد عسكرية منذ أمدٍ طويل. وهذه القواعد تبعد مرمى حجر، كما يُقال، عن الشاطئ اليمني. وفوق ذلك هناك وجود عسكري وأمني إسرائيلي ليس فقط في جيبوتي، بل في اريتريا، وإثيوبيا أيضًا.
فما هو الموقف الأميركي في البحر الأحمر من مطالبة إثيوبيا الآن بميناءٍ بحري على البحر الأحمر، وقد فقدته منذ استقلال اريتريا عنها قبل أكثر من ثلاثين سنة. وفي الوقت الحاضر أعلن رئيس حكومة إثيوبيا آبي أحمد أنَّ “البحر الأحمر هو الحدود الطبيعية لإثيوبيا وسوف يظل كذلك”. والأسئلة كثيرة حول هذا الموضوع، ولماذا تثيره إثيوبيا في الوقت الحاضر حيث البحر الأحمر محطّ أنظار كل دول العالم؟ وماذا إذا وقعت بسبب هذا الموضوع حربٌ واسعة بين إثيوبيا وجيرانها على الجانب الآخر من البحر الأحمر (الجانب الممتد من اريتريا والصومال الى جيبوتي وكينيا)؟ وماذا لو دخلت مصر، المَعنية الآن بحرب غزة، طرفًا في هذا الصراع الإفريقي على البحر الأحمر، بالنظر الى خلافها مع إثيوبيا على مياه النيل بعد اكتمال مشروع “سد النهضة” الإثيوبي الذي تُعارضه القاهرة منذ أن كان مجرّد فكرة على الورق؟ وأين تقف أميركا وإسرائيل من هذا الموضوع، بل من الحرب الأهلية الإثيوبية القائمة بين حكومة أديس أبابا وحركة التمرد الأمهرية في مقاطعة “تيغري” منذ سنوات؟
هناك مشاكل ومعضلات كثيرة في البحر الأحمر غير الموقف اليمني المساند للفلسطينيين في غزَّة، بل ربما أهم وأشمل.

  • سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحَلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى