شبحُ بن علي لا يزال يُطارد تونس

الشعب التونسي عاد إلى الإحتجاج: “الربيع العربي” لم يحل مشاكله

 

فيما عادت المظاهرات إلى شوارع تونس، تتصارع قصة نجاح “الربيع العربي” الديموقراطي فيها مع بقايا الماضي الاستبدادي.

 

الرئيس قيس سعيد: في وضعٍ لا يُحسَد عليه.

بقلم كلير باركر*

بدت المشاهد في الشوارع التونسية في كانون الثاني (يناير) الفائت وكأنّها مشاهدٌ تمّت رؤيتها سابقاً: مراهقون يرشقون الشرطة بالحجارة؛ هتافات تُطالب بإسقاط النظام؛ رئيس حكومة مُحاصَر على شاشة التلفزيون يطلب الهدوء ويُقابَل بالسخرية.

بعد عقد من “الربيع العربي”، أعرب جيلٌ جديد من التونسيين عن غضبه من الحكومة، حيث فشل الوقت والديموقراطية في حلّ المظالم الكامنة وراء انتفاضة 2011.

هذه المرة، لم تُطلق الشرطة الذخيرة الحيّة على المتظاهرين. لكن رجالها نشروا الغاز المسيل للدموع واستخدموا الهراوات، وأجروا اعتقالات جماعية، وسجنوا مئات القُصَّر وصحافياً واحداً على الأقل.

حفّزت حملة القمع القاسية على حركةٍ أوسع ضد بقايا الديكتاتورية. يُحذِّرُ محامون ونشطاء في مجال حقوق الإنسان من أن تونس، التي تُعتَبَر نموذجاً ديموقراطياً في العالم العربي، تتسلّل مرة أخرى نحو دولةٍ بوليسية.

بدأت الإضطرابات مُباشرة بعد الذكرى العاشرة لهروب الديكتاتور السابق زين العابدين بن علي إلى المنفى في 14 كانون الثاني (يناير). وفي مواجهة حالات الإصابة بفيروس كورونا المتزايدة والتوتر السياسي، فرضت الحكومة إغلاقاً وطنياً لمدة أربعة أيام وحظّرت المظاهرات. إعتبر الكثيرون أن هذه الخطوات ليست مُصَمَّمة لمكافحة الوباء بقدر ما هي لمنع التونسيين من الإحتجاج على اقتصادهم الذي يُعاني والطبقة السياسية غير المُبالية والبعيدة من الواقع.

في تونس، تبلغ نسبة البطالة الإجمالية 16.5 في المئة، و 36 في المئة بين الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 عاماً. وقد أدّت التنمية غير المُتكافئة إلى تهميش المناطق الداخلية والأحياء الفقيرة في تونس قبل تفشّي الوباء، وزاد فيروس كورونا الأمور سوءاً وتعقيداً. وانكمش الإقتصاد المعتمد على السياحة بنسبة 8.2٪ في العام 2020.

ولكن كما في العام 2010، لم يكن الاقتصاد هو السبب في اندلاع الإنتفاضة المُستمرة، بل مضايقات الشرطة. إشتبك متظاهرون وقوات الأمن في بلدة سليانة على بعد 80 ميلاً من تونس العاصمة، بعد انتشار مقطع فيديو لشرطي يُضايق راعياً محلّياً على مواقع التواصل الاجتماعي. أغلق السكان شوارع المدينة وأشعلوا النار في الإطارات، وسرعان ما ظهرت مظاهرات مماثلة في جميع أنحاء البلاد. قام بعض المتظاهرين ليلاً بإلقاء الحجارة وزجاجات المولوتوف على الشرطة ونهب وتخريب الممتلكات العامة والخاصة.

كان العديد من المتظاهرين شبّاناً من مناطق فقيرة، حيث لا يزال السعي وراء الكرامة – في قلب “الربيع العربي” – لم يتحقّق. وغيابها محسوس بشكل حاد في ضواحي العاصمة مثل حي التضامن، الذي شهد بعض الاشتباكات المستمرة في الشهر الفائت.

قال شاب عاطل من العمل يبلغ من العمر 22 عاماً – طلب عدم ذكر اسمه خوفاً من انتقام الشرطة – إنه قُبض عليه خلال مظاهرة مسائية. أمضى أياماً عدة رهن الإعتقال قبل أن يُصفَع بغرامة لا يستطيع تحمّلها.

قال عن زملائه المُعتَقلين: “بعضهم … شارك من أجل السرقة، لكن الغالبية أشخاص طيبون لديهم مطالب مثل التوظيف والتطور”.

وانضم العشرات من الفتيان من حي التضامن إلى مسيرة سلمية نحو البرلمان في الأسبوع الماضي، مُطالبين بإطلاق سراح أصدقائهم. قال حسام بوعزرة، (22 عاماً)، أنه انتهى الأمر بالشرطة إلى “ضرب الجميع من دون سؤال أو جواب” أثناء الاشتباكات المسائية. في مواجهة جدار من رجال الشرطة يرتدون معدات مكافحة الشغب في الأسبوع التالي، صاح المتظاهرون: “لا خوف، لا رعب، الشوارع ملك للشعب!”.

في الكبارية، وهي منطقة في جنوب تونس العاصمة حيث يبلغ معدل البطالة فيها حوالي 18.4 في المئة، إشتبك المتظاهرون مع الشرطة. تعيش العائلات هناك على الفتات، ويقول الكثيرون إنهم لم يتلقّوا مساعدة حكومية خلال الوباء، وأشاروا إلى استشراء الفساد وإهمال الحكومة.

تُمثِّلُ الشرطة بصمة الدولة الوحيدة تقريباً في أحياء مثل الكبارية. يروي المراهقون والشباب فيها عن تعرّضهم للإيقاف التعسّفي والمُضايقة من قبل رجال الأمن، الذين يمنعونهم أحياناً من الذهاب إلى الأحياء الأكثر ثراءً في العاصمة.

كانت العلاقة بين قوات الأمن وفقراء المدن التونسية مضطربة دائماً. بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 في أميركا، استغلّ زين العابدين بن علي الضغط الدولي لمحاربة الإرهاب لتبرير زيادة دور الشرطة. إستمرّت المُمارسات القمعية بعد ثورة 2011. وفقاً لمسحٍ لسكان أحياء فقيرة عدة في تونس أجرته منظمة “محامون بلا حدود” والمنتدى التونسي للحقوق الإجتماعية والإقتصادية، إعتبر 57 في المئة من المشاركين أنفسهم ضحايا عنف الدولة.

ردّ فعل الحكومة على انتفاضة كانون الثاني (يناير) لم يُؤدِّ إلّا إلى تأجيج التوترات. خلال الإحتجاجات الليلية، ملأت الشرطة الشوارع السكنية بالغاز المسيل للدموع والعربات المُدرَّعة. أطلق بعض رجال الشرطة الغاز المسيل للدموع على المنازل وسحبوا المتظاهرين على الطرقات. ثم ما لبث الجيش أن انتشر في مناطق عدة.

في 25 كانون الثاني (يناير)، أصبح هيكل راشدي، (21 عاماً)، أول ضحية في الإنتفاضة. وقالت عائلته لمنظمة العفو الدولية إنه قبل أيام، أصيب على رأسه بقنبلة غاز مسيل للدموع في غرب تونس. وقد فتحت السلطات التونسية تحقيقاً في سبب وفاته. ولكن في جنازة الراشدي في اليوم التالي، أطلق رجال الشرطة الغاز المسيل للدموع على الحشد الحزين.

تُقدّر الرابطة التونسية لحقوق الإنسان أنه تم اعتقال ما لا يقل عن 1,680 شخصاً على صلة بالاحتجاجات، بينهم مئات القاصرين. وتراوحت التُهَم بين انتهاك حظر التجوّل و”التحريض على العصيان”، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى السجن لمدة تصل إلى ست سنوات.

ويقول محامون وأقارب إن الشباب الذين لا صلة لهم بالإحتجاجات تعرّضوا للإعتقال التعسّفي في منازلهم. وذكر آخرون أنهم تعرّضوا للضرب أثناء استجوابهم من قبل الشرطة وفي السجن.

يفرض القانون التونسي على الشرطة استجواب الأطفال بحضور والديهم، لكن حميدة الشايب، المحامية في مدينة صفاقس الساحلية، قالت إن الشرطة استجوبت بعض القاصرين على انفراد وأجبرتهم على توقيع اعترافات مكتوبة.

كل هذا أثار ما وصفه بعض المراقبين بأنه أكبر حركة احتجاجية في تونس منذ الثورة. إجتذبت المظاهرات، التي حشدتها جزئياً الحركة الناشئة المناهضة للفاشية بقيادة بعض الشباب والتي تطلق على نفسها اسم “الجيل الخطأ”، شريحة عريضة من التونسيين الذين كانوا يهتفون “أطلقوا سراح المعتقلين!”، وشعارات مناهضة للشرطة. وحمل البعض لافتات كُتب عليها “لا عدالة، لا سلام = أوقف تمويل الشرطة”، مستوحاة من احتجاجات “حياة السود مهمة” التي جرت في الصيف الفائت في الولايات المتحدة. وغالباً ما يواجه هؤلاء كتائب من رجال الشرطة يرتدون معدات مكافحة الشغب، وتندلع مشاجرات بين الحين والآخر. في مظاهرة في وسط تونس العاصمة في 30 كانون الثاني (يناير) الفائت، ألقى المتظاهرون الشباب على شرطة مكافحة الشغب الطلاء.

ولدى سؤاله عن سلوك الشرطة تجاه المتظاهرين، قال المتحدث باسم وزارة الداخلية خالد الحيوني إن قوات الأمن “وجدت نفسها في مواجهة حوادث ألحق فيها الناس أضراراً بالممتلكات العامة والخاصة”. وأحال المزيد من الأسئلة حول سلوك الشرطة إلى وزارة العدل. ورفض متحدث باسم وزارة العدل التعليق.

في خطابٍ مُتلفَز في 19 كانون الثاني (يناير)، وعد رئيس الوزراء هشام المشيشي – وهو مستقل اختاره الرئيس قيس سعيد في تموز (يوليو) لتشكيل الحكومة التونسية الثالثة منذ انتخابات 2019 – بالإستماع إلى الشباب، واصفاً مطالبهم بأنها “مشروعة”. ومع ذلك، أشاد “باحترافية” قوات الأمن وحذّر من أنها ستواصل قمع النهب والتخريب – وهي التعليقات التي كرّرها في الأسبوع الفائت. في الشهر الماضي، طلب الرئيس سعَيد من الشباب عدم “السماح لأيِّ شخصٍ استغلال بؤسكم”.

بعد عقد من “الربيع العربي”، لا يزال قطاع الأمن التونسي يتمتّع بميولٍ استبدادية. وزارة الداخلية، التي اشتهرت باستخدام التعذيب والترهيب لقمع المعارضة السياسية في عهد زين العابدين بن علي، لا تزال غير شفافة وغير قابلة للإصلاح إلى حد كبير. في غضون ذلك، مكّن صعود نفوذ نقابات الشرطة رجال الأمن من مقاومة المُساءلة. في الأيام الأخيرة، نشرت النقابات رسائل تُهين وتُهدّد النشطاء والمحامين على فايسبوك. في الأول من شباط (فبراير)، حثّت نقابة للشرطة التونسية أعضاءها على قمع الاحتجاجات غير المُصرّح بها، وفي اليوم عينه، قام بعض أعضاء نقابة الشرطة بضرب المتظاهرين وحاولوا دهسهم أمام محكمة صفاقس. وحذر الرئيس سعيد، خلال زيارة لوزارة الداخلية، في اليوم التالي، من الاستغلال السياسي للنقابات الأمنية واقترح دمجها في نقابة موحدة، مؤكداً أن الضباط يجب أن يخضعوا للدولة. وقال “الحريات مكفولة وقوات الأمن والمواطنون ليسوا أعداء”.

في غضون ذلك، يتقدم في استطلاعات الرأي حزبٌ مناهض للثورة يؤجج الحنين إلى الديكتاتورية – الحزب الدستوري الحر. وتنفي زعيمة الحزب، عبير موسي، المسؤولة السابقة في حزب بن علي، حدوث ثورة في العام 2011. وهي تُشيد “بالإستقرار” الذي شهدته البلاد في ظل الإستبداد – مُناشدة الشعور المتزايد بين التونسيين بأنه على الرغم من ندرة الحرية قبل العام 2011، إلّا أن الضروريات كانت أقل تكلفة.

منذ العام 2011، إجتذب إصلاح قطاع الأمن التونسي مساعدات خارجية كبيرة من المانحين الأوروبيين والولايات المتحدة. لكن بعد الهجمات الإرهابية التي ضربت تونس في العام 2015، أخذ تعزيز مكافحة الإرهاب الأولوية على حقوق الإنسان.

قالت روث هاناو سانتيني، أستاذة السياسة في جامعة نابولي في لورينتال، والتي تُدرّس قوات الأمن التونسية: “إن ثقافة الإفلات من العقاب التي كانت تُهيمن على الشرطة ووزارة الداخلية في عهد بن علي لم يتم تحدّيها ومواجهتها أبداً”.

 

قدّمت الحكومة الأميركية إلى تونس أكثر من 100 مليون دولار من المساعدات لتعزيز إنفاذ القانون في البلاد والقضاء. وقال مسؤول في وزارة الخارجية إن بعض هذا ذهب نحو تحديث أكاديمية الشرطة الرائدة في وزارة الداخلية وتحسين قدرات تدريب الشرطة والحرس الوطني لإنشاء “قوة شرطة جديدة” مُوَجَّهة للمواطنين.

مع استمرار المظاهرات، أدّت حملة القمع التي شنّتها الشرطة إلى إحداث أثر مخيف في الأحياء المنكوبة حيث بدأت الإضطرابات. وفقاً ل”محامون بلا حدود”، تم اعتقال ما لا يقل عن 16 ناشطاً ومُدوِّناً لنشرهم على وسائل التواصل الاجتماعي حول الاحتجاجات. يقول المحامي ياسين عزازة إن قانون فترة الديكتاتورية المُستَخدَم لتبرير اعتقالهم ينتهك دستور 2014. لكن بما أن تونس لا تزال تفتقر إلى محكمة دستورية، فلا سبيل للطعن فيها.

ودعت نقابة القضاة الوطنية في الأسبوع الفائت قوات الأمن إلى ضبط النفس، وأكّدت على الحق في حرية التعبير والتجمّع. مع استمرار المحاكمات، تم إطلاق سراح العديد من المتظاهرين – وهي نتيجة، كما قال لمين بنغازي من منظمة “محامون بلا حدود”، تدلّ على “العبثية والتعسّفية في الإعتقالات”.

آخرون لم يحالفهم الحظ. تلقى بعض المتظاهرين أحكاماً بالسجن تصل إلى عامين. وحذّرت ريم بن إسماعيل، أخصائية تونسية نفسية، من أن سجن الشباب التونسي لن يؤدي إلّا إلى إبعادهم عن الدولة – ويخاطر بإدامة دائرة العنف.

كما ناشدت الشايب، المحامية في صفاقس، القضاة لإبداء الرحمة تجاه زبائنها من الشباب. وقالت: “آمل أن يفهموا أن هؤلاء الشباب هم ضحايا الفقر أو ضحايا التهميش لسنوات. لقد احتجّوا للتعبير عن وضعهم الهشّ – هذا كل شيء”.

  • كلير باركر هي صحافية مستقلة مقيمة في تونس. يُمكن متابعتها عبر تويتر على: @ClaireParkerDC
  • شارك في هذا التقرير عبد السلام هرشي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى