سَفاراتٌ بَينَ قطر والإمارات: اللّحظَةُ الخَليجِيّةُ المُقبِلة

محمّد قوّاص*

أعادت الإمارات العربية المتحدة وقطر التمثيلَ الديبلوماسي المُنقَطِع بينهما مُنذُ حزيران (يونيو) 2017. يغلقُ الحَدَثُ صفحةً متوتّرةً بينَ البلدين، ويَتّسِقُ مع المسارِ الذي أجمعت عليه دول مجلس التعاون الخليجي في قمّة العُلا في شهر كانون الثاني (يناير) 2021. وإذا ما عملت كلُّ الأطرافِ على الإزالةِ الكاملة للخلافِ وامتداداته وآثاره، فإنَّ أسئلةً تُطرَحُ بشأنِ مُستقبلِ المجموعةِ الخليجيةِ في كينونتها الذاتية وعلاقاتها البَينيّة الداخلية، وفي مكانتها ودورها ووظيفتها المقبلة داخل الدائرتين، الإقليمية والعربية.

تأتي الأسئلةُ الجديدة من حقيقةِ أن الأزمة سبّبت شللًا سياسيًا للخليجيين كمجموعةٍ واحدةٍ ومشروعٍ واحدٍ داخل هياكل المجلس. بدا أنَّ لا دينامية جماعية في ظلِّ انقسامٍ على حوافِ العداءِ بين دول مؤسِّسة وأساسية داخل منظومة الخليج الإقليمية. وعلى هذا بدا أنَّ تحديثًا بات ضروريًا، ليس فقط في الهياكل المنظِّمة لعمل المجلس وأساليب تسييره، بل يُطاوِلُ فلسفةَ التجمّعِ الخليجي وضوابطَ حصانته وصيانته. فالوضعُ السابق، ورُغمَ تميّزِ تجربته وتقدّمها مُقارنةً بتجربةِ جامعة الدول العربية ومنظومةِ العمل الجماعي العربي، لم يمنع نشوب الصدام الذي كاد، بأبعاده الخطيرة حتى على المستوى المُجتَمعي، أن يُهدِّدَ كينونة مجلس التعاون وديمومته.

قام “مجلس التعاون لدول الخليج العربية” (وفق التسمية الرسمية) في 25 أيار (مايو) 1982 كردِّ فعلٍ أمنيٍّ على المخاطر التي أظهرها نظام الجمهورية الإسلامية في إيران إثر نشوئه في العام 1979. وأثبتَ الخليجيون مُذّاك قدرتهم على التطوّرِ والانسجامِ والتأقلمِ وتشييدِ بناءٍ جماعي في السياسة والأمن والثقافة والاقتصاد. جرى ذلك رُغمَ ما شهده الفضاء الخليجي والبيئة العربية والإقليمية من زلازل جارفة. غير أنَّ أمامَ التجمّعِ الخليجي هذه الأيام تحدّياتٍ جدّية مُستجدّة، وربما أكثر جسامةً وتعقيدًا.

عودةُ علاقات الدول الخليجية إلى سابقِ عهدها لا تعني عودةَ مجلس التعاون إلى وضعه السابق. وجب الاعتراف بأنَّ ما بعد الأزمة الخليجية ليس كما قبلها، وأن خرائطَ موازين القوى قد تحوّلت، وأن تباعُدًا في الأجندات وخطط العمل والطموحات بات أمرًا واقعًا تأخذه كل الدول الأعضاء بالاعتبار. ولئن انتهى الخلاف بما انتهى إليه في قمّة العلا، فذلك يعني أنَّ الدولَ الأعضاء أقرّت جميعها بالأمر الواقع لأوزان بلدانها وخرائطها الجيوستراتيجية، فآثرت بعد “معمودية النار” التعايشَ والتنافسَ والتضادَّ والتكاملَ تحتَ سقف البيت الخليجي الواحد.

لم تتخَلَّ أيُّ دولةٍ عضوٍ عن المشروع الخليجي العام في عزِّ أخطرِ أزمةٍ عصفت بالمجلس منذُ قيامه. بدا أنَّ الوَعيَ الجمعي العام يستطيعُ تفهّمَ وجودِ خلافٍ حتى لو كان بالقساوة والخطورة التي عرفناها، لكن ذلك الوعي أظهرَ في المقابل حرصًا على تمسّكٍ، يكاد يكون مُقدَّسًا، بكينونةِ مجلس التعاون، وجَزَعًا يصِلُ إلى حدِّ “تكفيرِ” أيِّ ضلوعٍ بسلوكٍ يُهدّدُ وجوده ويقودُ إلى انفراط عقده. يُسجَّلُ لقطر تمسّكها بالبيت الخليجي، ويُسَجَّلُ أيضًا أنَّ أيَّ مُراجعةٍ لأدبيات السعودية والإمارات والبحرين كما الكويت وعُمان في أتون تلك الأزمة، تقود إلى استنتاجِ ذلك التقديس المُشترك لاستمرار مجلس التعاون وحيوية بقائه.

وإذا ما كانَ من أسئلةٍ بشأنِ مستقبل التنافس داخل مجلس التعاون الخليجي لتحقيق “الرؤى” الذاتية الخاصة بأعضائه، وإذا كانَ من تخوّفٍ من ظهورِ تشقّقاتٍ مُحتَملة في المستقبل، فإنَّ الأسئلةَ لا تنحصرُ بالفضاءِ الخليجي وحده، بل تتمدّدُ صَوبَ العالم العربي كما صَوبَ الدوائرِ الإقليميةِ والدوليةِ الشديدة الانخراط مع المساحة الخليجية في الأمن والسياسية والجيوستراتيجيا. وليس كشفًا أنَّ لحظةً تاريخيةً خليجية (وفق تعبير الأكاديمي الإماراتي الدكتور عبد الخالق عبد الله) تحتكرُ دورًا محوريًا رائدًا في العالم العربي، وأنَّ أيَّ تطوّرٍ إيجابيٍّ أو سلبيٍّ لدى منطقة الخليج يتداعى بأثقاله مباشرة على العالم العربي برمّته.

جديرٌ تأمّل التحوّلات في علاقات تركيا وإيران ودول الخليج وما تفعِّله في مستقبل علاقة البلدين مع كل المنطقة العربية. ينسحب الأمر أيضًا على مستويات العلاقات الخليجية مع الولايات المتحدة أو روسيا والصين وغيرها مع دول الخليج، ليتحدّدَ مستقبلُ السياسات العربية لهذه الدول مع دول المنطقة. وعلى هذا فإنَّ السؤالَ الخليجي هو سؤالٌ عربيٌّ بامتياز، لكنه أيضًا يتداعى مباشرةً على مستقبل الخرائط الجيوستراتيجية للشرق الأوسط.

ولئن يسود اعترافٌ بأنَّ أمنَ العرب مُتأثّرٌ بأمنِ الخليج، فإنَّ قادةَ الفكر الاستراتيجي لدى دول المجلس كانوا استنتجوا بالتجربة مِقدارَ تأثّرِ أمنِ الخليج بالأمن العربي. إضطرَّ “الخليج” للإدلاء بدلوٍ مباشر لتحصين الأمن العربي، وبذل الجهد للسيطرة على العبث والفوضى اللذين أفرزتهما مغامرات “الربيع العربي” إتقاءً لشرورٍ صارت، من خلال التجربة اليمنية على الأقل، تتوعّدُ نيرانها أمن السعودية والإمارات وباقي الفضاء الخليجي الكبير.

خلافُ الدول داخل التجمّعات الإقليمية هو جُزءٌ عضويٌ من آلياتِ التعدّد داخل الجسم الواحد. يكفي تأمل تجربة الاتحاد الأوروبي لاستنتاجِ حدّةِ الخلافات وتضادِّ المصالح بين الدول الأعضاء وتنافرِ أجنداتها. لكن التأمّل نفسه يقودُ إلى استخلاصِ آلياتِ صناعةِ القرارِ حتى لو مرّت مراحلُ إنضاجه بسياقاتٍ موجعة من التفاوض والحوار. بدت لهجة رئيسة الحكومة الإيطالية اليمينية الشعبوية جورجيا ميلوني في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي عدائيةً لاذعةً ضد فرنسا تاريخًا وراهنًا، لكنها جاءت قبل أيامٍ لتحلّ في ضيافة رئيسها إيمانويل ماكرون في الإليزيه في باريس.

ولأنَّ قرارَ الخليجيين يصبُّ باتجاهِ الدفاعِ عن الفكرة الخليجية، فإنَّهُ وجب اعتبار الخلاف ظاهرة طبيعية، وربما تكون صحّية، على أن تجري مقاربته عبر الأدوات الداخلية للمجلس وبين أصحاب القرار، وأن لا يتسرّب الجدل به نحو الرأي العام ومن على منصّات الإعلام الاجتماعي. فحين نشبَ الخلافُ بين روما وباريس تبادلَ الساسة المواقف الحادة وسط عدم اكتراث مُجتمعي في البلدين.

هنيئًا للخليجيين وحدتهم وتآلفهم والنهضة التي تُحقّقها دولهم، والطموحات التي ينشدونها للمستقبل. ولئن تنشط الرياض صوبَ بيروت والدوحة صَوبَ بغداد، على سبيل المثال، فالأمرُ بالنسبة إلى العرب هو تحرّكٌ خليجيٌّ واحد. وكان لافتًا قبلَ أيامٍ ما سجّله فيديو نَقَلَ مُحادثة في بطرسبرغ بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وضيفه رئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان. تحدّثَ بوتين عن استثمارات روسية لإقامة منطقة صناعية في مصر مُقترحًا أمرًا مشابهًا في هذا الصدد في الإمارات. وكان اللافت ردّ فعل الشيخ محمد في اقتراح أن يكونَ الأمرُ جُزءًا من تعاونٍ ثلاثي روسي-إماراتي-مصري مشترك. وفي الموقف ما تعنيه اللحظة الخليجية للخليج والعالم، وخصوصًا للعالم العربي الكبير.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى