الإفلاس الفكري

بقلم ميرنا زخريّا*

كلمة إفلاس غالباً ما تُفهم بأنها تعني الإفلاس الماديّ، ويا ليتَ الإفلاس لا يكونَ إلّا مادياً. يُقلقني الإفلاس الفكري ويُغريني الترف الفكري، يؤسفني التعرّي الفكري ويجذبني الكساء الفكري. من خطف فكرنا؟ ها هُم الأفراد يتّكلون على ما يعرضه عليهم الناشر على الشاشات، فيما يتكل الناشر على غسل دماغ الأفراد بألف مسحوقٍ ومسحوق؛ وما النتيجة سوى هستيريا فكريّة تنسف منطق الفكر الناصع الناضج الذي يتّسم: بالمتابعة والمحاسبة، بالتسلسل والتحليل، وبالتأني والتطوّر.
الإبحار في سيناريو عنوانه الإفلاس يُشبه الإبحار في سفينة إسمها الإغراق؛ سفينة تُربَط الأثقال على جانبيها وفور الإبحار تبدأ رويداً رويداً بالغرق نتيجة الحُمولة الزائدة التي تفوق طاقتها وتُعرقل حركتها وتُدمّر تقدمها، أثقال ذات آثارٍ عميقةٍ تمنعها من الوصول إلى برّ الأمان، تماماً كما تحول نزعةً تلوَ النزعة من الوصول إلى الثراء الفكري:
1. نزعة ماضويّة: وهنا لا بُد من التأكيد على أن الماضي والتاريخ لا يُمثلان المعاني ذاتها، وللعرب بشكلٍ خاص، نزعة غير مألوفة للتشبث بالماضي، كما وللتفاخر بالآباء والأجداد على حساب الأبناء والأحفاد؛ ما بإمكانه أن يُشكّل موقفاً مُعرقلاً لحركة تطوّر التاريخ الإنساني، ذلك أن عجلة الحياة تفرض ظهور معايير ومقوّمات جديدة فيما أتباع الفكر الماضوي يتمسكون بتوجّهات وأمثولات الزمن السابق. إن إنجازات وخلافات الماضي هي مدرسة من الخبرات يُبنى على مداميكها ولا يُستقر داخل جدرانها، بل يُستكمل البناء المجتمعي لكيْ لا تبقى الشعوب أسيرة الماضي العتيد المجيد.
2. نزعة تمجيديّة: وحين يبدأ الفرد في تفخيم نفسه، لا يعود يرى بشخصه سوى محاسنها ومُنجزاتها، وبالمقابل لا يعود يرى في الآخر سوى مساوئه ومعاصيه؛ إنها حالة تعظيم الذات مقابل جلد الآخر، والتي غالباً ما نلحظها في الخطابات السياسية التي يسودها الإطراء والإعجاب بالذات، إنه شعور غير واقعي بالتفوّق على الباقين، ما يُعيق أو ربما يُحبط عملية الإصلاح والتغيير بمعناهما الشامل والشافي. إن ما تقدّم يتمحور حول مفهوم الأنا بدل مفهوم النحنُ، ما يُفسّر حالة الضبابية التي تُغلف الرؤية في البلدان العربية وتؤدي إلى سلوك الإستخفاف بمخططات الآخر والمزايدة على إنجازاته.
3. نزعة تآمريّة: بعضهم يتخيّل بإستمرار، لسببٍ أو من دون سببٍ، أن باقي الدول والشخصيات يتآمرون عليه ويحاولون النيل من معتقداته، وعندئذ يرتاب الشك كل شاردة وواردة وتسود حالة التشوّش لتطال القاصي والداني. إذ لطالما حدث أن تآمرت جهتان على جهة ثالثة، في حين تُعد المحاسبة والثقة عُنصرين مُهمين ساعة إرساء الإتفاقات والعلاقات ما بين الدول والحكام والشعوب، ذلك أن المصالح المشتركة تُساهم في تجاوز الخصومة والبرودة. إنما ما يزيد التخوّف هو أن يغدو جنون الإرتياب هو سيد الموقف الذي يطغى على الصراعات الخارجية كما الداخلية من وطنية وإقليمية.
4. نزعة تأليهية: إنها ظاهرة متداولة جداً في غالبية الدول العربية، ما من شأنه أن يقضي على الحياة السياسية والمواطنية الحقيقية، إذ حين نضع مسؤول ما في خانة الأنبياء والقديسين، نكون بعدئذ كمنْ ينفي نظام الثواب والعقاب وكمنْ يضرب عرض الحائط أسس المراقبة والمحاسبة، ذلك أن المخاطبة بلغة التمجيد تُستتبع بمعاملة مُنحازة؛ ما من شأنه الوقوف بوجه إعطاء كل ذي حق حقه. إنها منظومة دينية سياسية إجتماعية مترابطة الأطراف، علماً أن مواطني هذه الدول تراهم سُرعان ما يخلعون عنهم أدبيات عبارات التمجيد والتأليه من أحاديثهم، فور وُصولهم إلى بُلدان الإغتراب.
5. نزعة إقصائية: هي نزعة تحمل في جوهرها مقوّمات رفض ونفي الشريك والقريب، وفي حالاتٍ قُصوى تُسمى بالهيمنة حيث يُصار إلى مصادرة دورهما. وكثيراً ما يُعزز الإصطفاف العمودي بين الدول العربية بدل الإنصهار التعاوني، فكلٌّ يعتبر بأنه يملك الحق والحقيقة، وبالتالي، كلٌّ يعتبر بأن في التكامل مربحاً للآخر وفي الشراكة خسارةً لشخصه. إن الميل إلى تهميش فئة، كفئة الشباب أو المعوّقين، يؤدي إلى تقليص دورهم وبالتالي خسارة الدول العربية لطاقاتٍ فاعلةٍ وقادرةٍ، ما يؤدي من ناحية أولى إلى بناء مجتمعاتٍ مُفككةٍ، وما يقود من ناحيةٍ ثانيةٍ إلى الحدّ من بناء أوطانٍ مُتمدنةٍ.
6. نزعة ذكوريّة: إنها مسألة مطروحة على بساط البحث منذ القدم وحتى اليوم، إذ لطالما تعرّضت المرأة العربية لتجاهل حضورها حيناً ولمصادرة حقوقها أحياناً، إنما المؤسف هو أن الأنثى نفسها قد قبلت بهذا الواقع لا بل بعضهنّ يقمن بتغذيته من خلال تربيتهنّ لأولادهنّ بطريقةٍ غير مُنصفةٍ وغير عادلةٍ بين أبنائهنّ وبناتهنّ. أما بالنسبة إلى الفرق بين الشرق والغرب فهو أن الأخير قد نظر إلى المرأة ككائنٍ مُنتجٍ مُشاركٍ في إصلاح مشاكل البلاد والعباد، فيما عدد من المشرقيين ما زال ينظر إليها ككائنٍ مُختصٍ بأمور العائلة، ولذا ما زال المجتمع فاقداً لنصف قدراته الفكرية والعلمية والإنتاجية.
7. نزعة تدينيّة: الدين في أصله إلهي أما التديّن ففي طبيعته بشري؛ وفي غالبية الدول العربية يتداخل الدين مباشرةً بالمنظومة الإجتماعية والسياسية وحتى التجارية، وبالتالي تجده يتغلغل في صميم الواقع العربي، لدرجة مُبالغ بها تُنفر أحياناً المؤمن قبل المُلحد. فالدين ينطوي على رحابةٍ ومحبّةٍ ومُسامحةٍ إنسانية بالغة؛ أما ذاك الغُلو في التديّن الذي يُمارسه المتطرّفون فقد غدا بمثابة أداة تُلاحق الآخر المختلف وتتهمه وتحكم عليه، ما أدّى إلى التفارقِ بدل التقاربِ بين الطوائف والأديان، وما أساء أيضاً إلى مجرى قنوات التواصل؛ وعليه، فمنْ مصلحة الجميع أن يُعاد للدين وجهه النقيّ العليّ العادل.
وبعد.. الفكر هو من أعظم نِعم الله، شكراً إلهي.

• باحثة في علم الإجتماع السياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى