… وأَخيرًا ظَهَرَ في صيدا الكاهن الرابع
بقلم هنري زغيب*
هي ذي أَرضُنا الأُمُّ تَـحسُر من جديدٍ عن كنوزٍ في صدرها تاريخية. ومن صيدا هذه الـمرَّة. وبعد عشرين عامًا على مُباشرة بعثةِ المتحف البريطانـي الأَثريةِ، (بقيادة الدكتورة كلود ضومط سرحال)، تنقيباتٍ دقيقَةً في موقع المدرسة الأَميركية، أَثبتَتْ أَنّ الشعبَ اللبناني متحدِّرٌ من جدودٍ في لبنان قبل 4000 سنة، وأَنّ الصيدونيين هم أَهلُ المدينة منذ العصر النحاسي قبل التاريخ، مرورًا بالعصور الكنعانية فالفينيقية، عاشوا بين قلعة البحر وقصر البر، كما دلَّت التنقيبات عاكسةً ما كان في صيدون من طقوسٍ دينيةٍ ومعالِـمَ ثقافيةٍ واحتفالاتِ الولائم والأَضاحي لدى الكنعانيين فالفينيقيين، وهيكل الإِلهة عشتروت، وسُرُج الزيت الفخارية، والأَواني الخزفية، ومعابدَ ثلاثةٍ: إثنان كنعانيان، الأَولُ من القرن السادس عشر (ق.م)، والآخَرُ من القرن الثالث عشر (ق.م)، ومعبدٌ فينيقيٌّ من القرن التاسع (ق.م)، ومنها يتضح أَنَّ فينيقيّـي العصر الحديدي متحدِّرون من كنعانيّـي الأَلف الثاني (ق.م)، وأَنَّ طقوسهم انتشرَت من صيدا متوسعةً إِلى كلّ حوض المتوسط.
ومن المكتشفات: قطعةٌ نقديةٌ محفورةٌ عليها أُوروپّ ممتطيةً الثور وشالُها متطايرٌ في الهواء كقوس الغمام، أَكوابٌ للخمر، أَقدمُ كأْس مينوسية في الشرق، لوحٌ إِسفينيٌّ (الأَول من نوعه في صيدا)، أَدواتٌ خشبية، جرارٌ صغيرةٌ وَوُسطى، ملاقطُ حجريةٌ، تماثيلُ صلصاليةٌ، خَزَفياتٌ صغيرةٌ، تِـمثالُ أُمٍّ تضُمُّ طفلها إِلى صدرها.
ومن مكتشفات الموقع الجديدة النادرة: شعارٌ للإِلهة الفينيقية عشتروت، هو الثالثُ بعد إكتشاف الأَوَّل في صربتا (شماليَّ الصرفند) والآخَرُ في حفريات صور.
على أَنَّ أَبرزَ تلك الكنوز: تمثالُ كاهنٍ فينيقيٍّ لم يُكتَشفْ صنْــوٌ له منذ 50 سنة، هو الرابعُ بعد ثلاثةٍ محفوظةٍ في المتحف الوطني اللبناني، كانت إكتُشِفتْ في ثلاثة مواقع: صيدا وصور وأُمِّ العُمُد (مدينة قديمة شرقيَّ شاطئِ الناقورة، كتَبَ عنها موريس دونان سنة 1962).
هكذا إِذًا: مكتشفاتٌ مجمَّعةٌ كلُّها مَـخزونًا حضاريًّا في مدينة واحدة: صيدا، حسَرَت عنها اليوم كنوزًا من أَجيالنا السحيقة شاهدةً ستكونُ للأَجيال المقبلة مادةَ دراسةٍ وتحليلٍ وأَبحاثٍ تُشعل في منارة التاريخ شعاعاتٍ خالدةً خلودَ أَرضنا الأُم، فيلتفت العالم الحضاري إِلى لبنانَ جوهرةَ حضارةٍ، ونورًا في الشرق على خصر المتوسِّط لم يَـخْبُ، وما زال مشِعًّا على الصفحة الأُولى من كتاب التاريخ، فلا تنكتبُ ذاكرةُ العالم دون تدويــنِها الحضاريِّ بِــحِــبر لبنان.
رسالةٌ إِلى العالم؟ صحيح. لكنَّها من قبل ومن بعد، رسالةٌ لنا نحنُ، كي نَعي عظمةَ لبناننا وعراقَــتَـه فنتعلَّمَ كيف نَـحْفَظُه ونُـحافظُ عليه معتَــزِّين به لا بقعةَ أَرضٍ جغرافيةٍ عقيمةً بل أَرضًا أُمًّا خصيبةً تَـحضُــنُــنا وتغْفِر أَخطاءَنا وخَطايانا، وتُذكِّرنا بشهاداتٍ العالم عنا، واحدةٌ منها شهادةُ ﭘــول موران سنة 1938 في كتابه “المتوسط بحرُ الـمُفاجَآت” أَنَّ “صيدا وصور كانَــتَــا يومًا كُلَّ تاريخ العالم”.
• هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. يُمكن التواصل معه على البريد الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو الإطلاع على إنتاجه على: www.henrizoghaib.com أو www.facebook.com/poethenrizoghaib