النموذج الذي تعتمده دول المغرب العربي لضبط حدودها يحمل في طيّاته خطر إندلاع أزمة جديدة
بدلاً من المساهمة في تعزيز الأمن في شمال أفريقيا، فإن النموذج الجديد الذي تعتمده دول المغرب العربي لضبط حدودها قد زاد من خطر عدم الإستقرار في المناطق الحدودية، حيث تعتمد المجتمعات المحلية على التهريب.
بقلم ماكس غاليان ومات هربرت*
خلال الأعوام الماضية، عملت بلدان شمال أفريقيا على تحصين حدودها تحصيناً شديداً. فعلى طول الحدود التونسية – الليبية يمتد جدار عازل بطول 220 كيلومتراً، أُنجِز في شباط (فبراير) 2016. وعلى بعد 1200 كيلومتر نحو الغرب، يُحدِّد جداران جديدان الحدود بين المغرب والجزائر. و تشكّل هذه الحواجز عارضاً من عوارض ورمزاً من رموز مقاربة أمنية جديدة للحدود في مناطق عُرِفت تاريخياً بترابطها الثقافي والإقتصادي.
منذ انتفاضات 2011، بدأت الحكومات في شمال أفريقيا النظر في شكل أساسي إلى حدودها بأنها تشكّل تحدّياً أمنياً. لقد أدّى النزاع في ليبيا وشمال مالي إلى طفرة في تهريب السلاح وتجارة المخدرات في مختلف أنحاء المنطقة، وأفسح المجال أمام المجموعات المتشدّدة كي تزدهر وتشنّ هجمات على تونس والجزائر. وبدأ يُنظَر إلى الحدود القابلة للإختراق بأنها سبب من أسباب ضعف الدولة ومؤشر من مؤشراته، وكذلك مصدر لعدم الإستقرار والهشاشة في المنطقة. وقد ردّت الحكومات الإقليمية بالتخلي عن الأساليب القديمة في إدارة الحدود لمصلحة مقاربات غربية قائمة على العسكرة والردود العدوانية على المعابر غير الشرعية. وقدّم المانحون الغربيون دعماً حماسياً لهذه الحملة من أجل التشدد في ضبط الحدود، عبر توفير مؤازرة كبيرة لهذا المجهود من خلال دفق المعدّات والتدريب والمساعدات. لكن وبدلاً من المساهمة في تعزيز الأمن في المنطقة، حمل ضبط الحدود معه خطر التسبب بعدم الإستقرار عند الحدود الإقليمية، حيث تعوّل المجتمعات المحلية على التهريب والبضائع المهرَّبة الرخيصة.
منذ الإستقلال، أعطت دول المنطقة الأولوية للتنمية الإقتصادية والإستثمار في مدن الساحل الأساسية، تاركةً المناطق الداخلية والأراضي الحدودية الشاسعة عرضةً للإهمال والتهميش. وفي حين أظهرت دول شمال أفريقيا لامبالاة شديدة إزاء تعزيز الفرص الإقتصادية في الأراضي الحدودية، إلا أنها سعت إلى الحدّ من خطر غياب الإستقرار في تلك المناطق. لهذه الغاية – وكذلك من أجل تأمين مدخول إضافي للنخب التي تجمع بينها روابط سياسية – سمحت هذه الدول بأشكال بديلة من توليد المداخيل في الأراضي الحدودية، على رأسها التهريب. وقد ساهمت تجارة الشبكات بالبنزين أو المواد الغذائية أو الأقمشة أو الأجهزة الإلكترونية المهرَّبة في تأمين الوظائف، وأتاحت الحرَكية الإجتماعية، وخفّضت من كلفة المعيشة في المجتمعات الحدودية. وهكذا تطوّرت إقتصادات ناشطة عبر الحدود، وبدأت برسم حدود المنطقة. قبل فترة قصيرة، كان يتم تهريب محروقات بقيمة نحو 119 مليون دولار، بحسب التقديرات، من ليبيا إلى تونس في السنة، في إطار إقتصاد غير نظامي كان يوظّف الآلاف في الأراضي الحدودية. وكانت تسود ديناميكية مماثلة عند حدود الجزائر مع المغرب، حيث جرى في العام 2013 تهريب 265 مليون ليتر (70 مليون غالون) من البنزين، بحسب التقديرات، عبر الحدود.
كذلك أتاح القبول بهذه الأنشطة في الأراضي الحدودية الإقليمية، شكلاً من أشكال التنمية الإقتصادية المنخفضة التكلفة. وعلى الرغم من أن الأراضي الحدودية قد تبدو فوضوية وغير مضبوطة، مع تجاهُل المسؤولين الحكوميين لهذه الأنشطة أو تورّطهم الشديد فيها، إلا أن التطبيق المحدود للقوانين لم يعنِ يوماً أن الدول تخلّت عن السيطرة. في الواقع، كان عدد كبير من أنشطة التهريب يتم من طريق المعابر الحدودية تحت العين الساهرة للمسؤولين الأمنيين. وكان ضباط من الأجهزة الأمنية ومسؤولون جمركيون في المغرب والجزائر وتونس يؤدّون دور الوسطاء والمراقبين في هذه الأنشطة التجارية – مقابل المال – في حين كانت البلديات المحلية في تونس والمغرب تجبي ضرائب من الأسواق حيث تُباع البضائع المهرَّبة.
كذلك يؤدّي المهرّبون والمجتمعات المحلية عند الحدود دوراً مهماً في الهندسة الأمنية الحدودية للدول. فقد كانت القوى الأمنية التي تعاني من الإرهاق، تعتمد على سكّان المناطق الحدودية لتزويدها بالمعلومات عن البضائع الخطيرة أو الأشخاص غير المألوفين الذين يعبرون الحدود. وقال نائب مغربي من إحدى المناطق الحدودية*: “كان الإقتصاد غير النظامي والأشخاص الذين يعيشون في هذه المناطق الحدودية بمثابة حرّاس الحدود”، مضيفاً: “لعل الحدود، مع كل الأسيجة وما شابه، أقل إنضباطاً الآن مما كانت عليه عندما كان السكان يعملون هناك”.
لقد تبيّن أن المقاربات التقليدية ناجحة إلى حد كبير. صحيح أنه وقعت أعمال عنف عبر الحدود أو إندلعت إحتجاجات في صفوف سكّان المناطق الحدودية، لكنها كانت نادرة نسبياً. هذا فضلاً عن أن التحوّل في المشهد الأمني الأوسع في المنطقة أحدث أيضاً تغييراً في واقع الأمن في الأراضي الحدودية. ففي تونس وليبيا، تسبّبت الانتفاضات بتصدّع في علاقة العمل بين القوى الأمنية والمجتمعات الحدودية، كما أن تدفّق الأسلحة والأشخاص عبر حدودهما المشتركة في العام 2011 أثار قلق الأفرقاء المحليين والدوليين على السواء. وأبدت القوى الأمنية والسياسيون في الجزائر والمغرب خشيتهم من أن أسلوبهم التقليدي ذا اللمسة الخفيفة في التعاطي مع الأمن لم يعد كافياً على ضوء غياب الاستقرار في المنطقة. واشتدّت هذه المخاوف مع قيام مجموعات تابعة لتنظيم “القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي” وتنظيم “الدولة الإسلامية” بشنّ غارات قوية الوقع عبر الحدود الوطنية، ومنها هجمات على منشأة الغاز في عين أميناس في الجزائر في العام 2013، ومدينة بنقردان التونسية في العام 2016.
لقد إستُبدِلت الاستراتيجيات البراغماتية التي كانت مُعتمَدة سابقاً للتعامل مع المهرّبين، باستراتيجيات أكثر صِدامية. فقد نشرت الجزائر ما لا يقل عن 8000 عسكري لفرض الأمن عند الحدود، واعتمدت تونس المقاربة نفسها، عبر إنشاء مناطق عسكرية مغلقة عند الحدود مع ليبيا في العام 2013، ثم عمدت لاحقاً إلى توسيعها لتشمل أجزاء من حدودها مع الجزائر.
وبنت المغرب والجزائر وتونس جدراناً تمتد على مئات الكيلومترات. وساهمت الولايات المتحدة وألمانيا في تمويل الجدار التونسي ومعدّات المراقبة الخاصة به، عبر التبرّع ب44.9 مليون دولار منذ العام 2016.
لقد تسبّبت هذه النظم الجديدة من الإدارة الحدودية بإجهاد إقتصادي شديد للمجتمعات المقيمة في المناطق الحدودية. فقد أدّت الجدران التي أنشأتها تونس والجزائر إلى خنق شبكات التهريب المحلية الصغيرة النطاق، ما ألقى بالمجتمعات المحلية في الفقر، ودفعها نحو الإحتجاج والإجرام. كما أنها منحت القوى الأمنية حيّزاً جديداً لاستغلال السلطة، وفق ما تُظهره الزيادة اللافتة في أعداد المصابين والقتلى في صفوف المهرّبين عند الحدود التونسية – الليبية*. لقد شهدت بلدة بنقردان التونسية إحتجاجات وإضرابات واسعة النطاق في العامَين 2016 و2017، ويتسبب إعتصام مستمر بإغلاق معبر رأس جدير الحدودي إحتجاجاً على السياسات التي تنتهجها ليبيا لمكافحة التهريب. وفي الجهة المقابلة من الحدود، في الجزائر، إشتكى أحد أبناء المجتمع المحلي من أن “الناس يزدادون فقراً، وتجّار المخدرات هم الوحيدون الذين لا يزالون يجنون المال”.
كذلك تأثّر الأمن في المنطقة الحدودية بلجوء القوى الأمنية بصورة مطردة إلى العنف ضد المهرّبين. وقد أدّى ذلك، عند الحدود التونسية – الليبية، إلى إرتفاع عدد المصابين والقتلى في صفوف المُهرّبين، وتسبّب باندلاع إحتجاجات جنحت أحياناً نحو العنف. ووقعت حوادث مماثلة عند الحدود المغربية – الجزائرية، على غرار ما حدث في تشرين الثاني (نوفمبر) 2017، عندما إندلعت إحتجاجات في بلدة بني درار الحدودية في المغرب بعد مقتل مُهرّب على يد أحد حرّاس الحدود.
هذا فضلاً عن أن السياسات الحدودية الأكثر تشدّداً لا تُقدّم مساهمةً تُذكَر من أجل التصدّي للتحديات الإرهابية. كثيراً ما تُشدّد الحكومات، في المغرب العربي والعالم، على الروابط بين المهرّبين والإرهابيين. وقد أتاح هذا الربط مبرّراً لاتخاذ إجراءات مشدّدة ضد المهرّبين الذين كانوا يعملون من دون رادع في المراحل السابقة. هناك بعض الروابط بين مهرّبين معينين ومنظمات إرهابية، بدفعٍ من المصالح المالية للمهرّبين أو الإبتزاز من الإرهابيين. بيد أن هذه الروابط نادرة نسبياً. ففي نظر معظم المهرّبين، من شأن إرتباطهم بالإرهابيين أن يزيد من المخاطر التي تحيط بعملهم. فالقوى الأمنية التي تغضّ النظر عادةً عن حركة التهريب، لديها إستعدادٌ أكبر بكثير للجوء إلى القوة في حال تبيّن أن هناك رابطاً بين المهرّبين والإرهابيين. ويشرح مسؤول أمني تونسي: “التهريب هو مصدر رزق لعدد كبير من الأشخاص، ولن يجازفوا به عبر التورّط مع الإرهابيين”.
في حين أن المجتمعات الحدودية في المنطقة هي في معظم الأحيان محافظة دينياً، وتُنتج مستويات عالية إحصائياً من المقاتلين الأجانب، إلا أن معظم السكان يعتبرون أن المعتقدات الدينية لتنظيم “القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي” أو تنظيم “الدولة الإسلامية” تتعارض جوهرياً مع معتقداتهم. فالأسباب الفعلية وراء قابلية الشباب في هذه المناطق للجنوح نحو التشدّد تتمثّل في خليط التهميش الإقتصادي، والإزدراء السياسي من جانب النُخب، واستغلال السلطات من قبل الأجهزة الأمنية – وكلّها أمورٌ تساهم الأشكال الجديدة من الإدارة الحدودية في إستفحالها بدلاً من الحدّ منها.
واقع الحال هو أن تطبيق هذا النموذج التبسيطي الذي تعتمده منطقة شمال أفريقيا لضبط الحدود على الطريقة الغربية، يحمل في طيّاته خطر إندلاع أزمة جديدة. ففرض أشكال جديدة من السيطرة، بما في ذلك من خلال تقييد الحركة وجباية ضرائب كاملة على البضائع المهرَّبة سابقاً، لا يساهم في “إعادة بسط سلطة الدولة”، بل يفرض علاقة جديدة بالكامل بين المركز والأطراف تتم حصراً على حساب الأطراف. وفي غياب إستراتيجيات إقتصادية بديلة، قد تعود هذه الإجراءات بنتائج معاكسة لما كانت تتوخّاه في الأصل، وذلك عبر فقدان المركز سيطرته على أراضيه الحدودية.
• ماكس غاليان طالب دكتوراه في التنمية الدولية في كلية لندن للاقتصاد. ومات هربرت شريك في شركة”ماهاربال” الاستشارية التونسية، وطالب دكتوراه في كلية فلتشر للقانون والديبلوماسية. لمتابعتهما عبر تويتر: MaxGallien@ و mherbe01@
• عُرّب هذا الموضوع من الإنكليزية.
• يستند هذا المقال إلى مقابلات مع أكثر من 400 شخص من مهرّبين وأفراد في المجتمعات المحلية ومسؤولين في البلديات وعناصر أمنيين، أُجريَت في المناطق الحدودية في المغرب والجزائر وتونس بين العامَين 2014 و2018.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.