طريق الموتى
بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر*
الخروج على جلباب الأب والتجرّد منه، والتمرّد على نواميس الربّ وكتبه، وإعلان الحرب على الرُسُل والتابعين ليست شيئاً جديداً البتة، لكنها أزمة فكرية يمرّ بها كلّ من يطرق باب التنوير. المزعج في الأمر أنها تحوَّلت من حالة فردية غاية في الندرة إلى ظاهرة تستحق الدراسة، لا سيما بعدما أصبح التمرّد على أي نصّ وإن كان مُقدَّساً طريقاً نحو الشهرة والمال تُغدقه جهاتٌ مشبوهة ومنظمات غير وطنية.
كان التمرّد في القديم وسيلة لنقد الذات وتطوير أنماط التفكير، والإرتقاء بالفكر المجتمعي من أجل إحداث طفرة في المحيط. أما اليوم، وبعد أن تربع على عرش المال والإعلام حفنة من الجهلة والمُفسدين، صار التمرّد سلعةً رخيصةً يَستدِرّ بها الإعلاميون التافهون متابعة الدهماء الذين لا يجيدون فعل شيء إلا الحملقة في الشاشات ومطّ الشفاه وفَغر الأفواه.
تحتاج مجتمعاتنا العربية، أشدّ ما يكون الاحتياج، إلى رجالٍ يُدركون مكامن الخلل في العقلية العربية ويعمَلون على إصلاحها من أجل خلق جيلٍ واعٍ يستطيع مواجهة فِتنِ الداخل ومؤامرات الخارج. جيلٌ لا يحصر فكره في الهيئة والجلباب وفصاحة الخطاب قدر ما يهتم بالفكرة والمسار.
في روايته “طريق الرجال الموتى” (Dead Men’s Path)، يُقدم لنا الروائي النيجيري “تشينوا آتشيبي” (Chinua Achebe) بطلاً من ورق، يفسد من حيث أراد الإصلاح، ويهدم كل المعابد في طريقه نحو التنوير. فبعد ترقيته إلى مدير مدرسة ثانوية، وإطلاق يده في إصلاح حالها، يقرر “مايكل أوبي” إحداث طفرة نوعية في طرق التدريس ووسائله. ويُقرّر الإنتقال برفقة زوجته الشابة إلى قرية “ندومين”. ليس المطلوب مني هنا، ولا منك قطعاً عزيزي القارئ، البحث عن موقع هذه القرية على “غوغل إيرث” أو “ستريت فيو”، فهي قرية لا تختلف كثيراً عن كثير من قرانا التي فرّ منها متعلّموها ونسيتها الحكومات ردحاً من الزمن.
تستغل نانسي مهارتها في زراعة الزهور لتساعد زوجها المتحمّس في تحويل المدرسة التي نسيها التاريخ إلى مدرسة عصرية على أحدث الطرز الأوروبية لتقوم بدورها غير المألوف في نشر الثقافة والعلم في ربوع قرية تسودها الخرافة وتُهيمن عليها أرواح الموتى والجنّ والعفاريت. ويصطدم الرجل رويداً بأهل القرية الذين يؤمنون بالتاريخ أكثر من عشقهم للجغرافيا، ويثقون بالموتى أكثر من ثقتهم بأبنائهم ونسائهم.
وذات صباح، يجلس مايكل وسط حديقة المدرسة ليتابع آخر التحديثات التي تمتّعت بها مملكته الصغيرة في عهده الميمون، وفجأة تمرّ أمام عينيه امرأة شمطاء، تقطع ساحة المدرسة من المنتصف من دون أن تُلقي بالاً له أو لرفاقه. يقف الرجل مشدوهاً ليسأل عن سبب مرور العجوز من هذا المكان، فيخبرونه أنه طريقٌ مُقدَّس عند أهل القرية، لأنه يربط بين الخلف (المعبد) والسلف (المقبرة)، ويُمثل قيمة دينية مهمة غير هيّنة عندهم.
يستشيط “أوبي” غضباً، ويُقرّر قطع طريق الموتى بأسلاك شائكة ليفصل المواطنين القادمين من أقصى تخوم الجهالة عن جذور ضلالهم. في البداية، يلجأ أهل القرية إلى القس، فيذهب الرجل بدوره للقاء “مايكل” كي يثنيه عن خطته “البلهاء”، لكن “مايكل” الذي تأخذه العزّة بالإثم، يرفض الإنصات إلى الرجل، بل ويتطاول على زيه الأبيض ولحيته الكثّة. ويخرج القس غاضباً ليضرم نار الغضب في قلوب قوم أصبحوا يعتبرون قطع طريق الموتى قضية حياة.
يمر الناس أفواجاً من ساحة المدرسة فيُدمّرون بأقدامهم المشققة أسيجتها التي دأبت “نانسي” على رعايتها، ويقومون بهدم سور يفصل بينهم وبين ما يريدون، إتقاء لسلك مايكل الشائك. ويقف “أوبي” مشدوهاً وقد أسقط في يده، لا يدري ما يفعل. ويأتي أحد المتابعين ليرى حجم الدمار الذي لحق بالمدرسة، ويفتش عن سبب إنهيار جدار الثقة بين أهالي القرية البسطاء وبين من جاء لتنويرهم، ويقرر في النهاية فصل “أوبي” من الخدمة، لأنه لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى. وتنتهي القصة بإزالة السلك الشائك وعودة العفاريت إلى أحاديث الناس وأسمارهم.
هي قصة يحيى حقي عينها “قنديل أم هاشم”، والتي سافر بطلها (إسماعيل) إلى ألمانيا قبل الحرب العالمية الثانية، وعاد إلى بسطاء قومه مرتدياً القبّعة وروح التعالي على خلق الله. ليتحوّل الذي عاد من سبأ بغير نبأ ولا حجة إلى عدو لأهل بلده بعد أن تجرأ على كسر قنديل أم هاشم الذي كانوا يضعون زيته في عيونهم بغرض التبرك والعلاج بعد أن تسبب في فقدان “فاطمة” حبيبة قلبه نور بصرها، ناعتاً الناس بالجهل والتخلّف والبداوة. وهنا يحدث الانفصام التام بين طبيب العيون الذي أراد أن يُصحّح أبصار قومه، وبين من جاء لنجدتهم من إرث التخلف والحمق. وفي النهاية يضطر “إسماعيل” مُرغَماً إلى إحترام فكر أبناء قومه وعدم التجاوز في ما يتعلق بمقدساتهم حتى وإن بدت له سطحية وتافهة.
في رأيي أن يحيى حقي فتح باباً في نهاية النفق، بينما إكتفى “تشينوا” بإلقاء حجر ضخم في محيط التخلّف الراكد في محيطه الواسع. وقد أجاد الرجلان في نقد وقائع مزرية لمجتمعات لم تُفرِّق بين الخرافة والدين، وانتصر كلاهما للفكر المعتدل الذي يسعى إلى التجديد مع مراعاة مقتضى الحال.
لكن الذين يخرجون علينا عبر شاشات الفتنة المتربصة اليوم، فيهدمون من العقائد كل الثوابت من دون إثارة من فكر أو دليل من نقل، بحجة أنهم لا يريدون إلّا الإصلاح ما استطاعوا. وللأسف لا يجد هؤلاء رجالًا بقيمة “شنوا” أو بقامة “حقي” ليصلحوا ما أراق الموتورون من زيت مُقدَّس وما أغلقوا من طرقٍ للموتى.
• عبد الرازق أحمد الشاعر هو أديب، كاتب وصحافي مصري، تستطيعون التواصل معه على بريده الإلكتروني: Shaer129@me.com