كَيفَ يُمكِنُ للسعودية استِخدامَ نُفوذها في غزّة

من المعروف أنّ الرياض تتمتّع بقدر كبير من التأثير بالنسبة إلى مستقبل إسرائيل وفلسطين، لكنها، كما يبدو، تنتظر عملية سلام حقيقية وقابلة للحياة لكي تنخرط جديًا.

الأمير فيصل الفرحان ووفد القمة العربية-الإسلامية مع رئيس وزراء النروج ووزراء خارجية دول “النورديك” و”البينيلوكس”: هجوم ديبلوماسي للوصول إلى وقف إطلاق النار فورًا.

عزيز الغشيان*

لم يَمضِ وقتٌ طويل عندما كان معظم العالم يُرَكّزُ على “صفقةٍ كبيرة في الشرق الأوسط” بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية وإسرائيل. إنَّ المناخَ الحالي من الموت والدمار والكارثةَ التي تتكشّفُ أمام أعيننا بَعيدان كلّ البُعدِ من الحماسة التي كانت تُحيطُ بالتطبيع السعودي-الإسرائيلي المُحتَمَل في الأسابيع والأشهر التي سبقت الحرب.

وفي حين قد يتفاجأ بعض المراقبين بالهجوم غير المسيوق الذي شنّته “حماس” في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) واندلاع حرب كبرى على أثره، فقد كان آخرون يخشون منذ فترة طويلة اندلاع مثل هذا العنف. وبسبب الرغبة اليائسة لكلٍّ من إسرائيل والولايات المتحدة في رؤية اتفاق تطبيع مع السعودية، تم تجاهل القضية الفلسطينية التي لم يتم حلّها والتي كانت تغلي وتتأجّج تحت رماد ساخنٍ إلى حدٍّ كبير.

كانت لدى كلٍّ من إسرائيل والولايات المتحدة أسبابهما الخاصة للضغط من أجل التطبيع. بالنسبة إلى واشنطن، وخصوصًا الرئيس جو بايدن، فإن كونه الوسيط في مثل هذه الصفقة الكبرى من شأنه أن يُعزِّزَ إرثه في التاريخ ويوفّر نقطة حوار ديبلوماسية ضرورية للحملة الانتخابية لعام 2024.

بالنسبة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، فإنَّ اعتراف االسعودية –راعية الحرَمَين الشريفَين– بإسرائيل سيكون بمثابةِ نصرٍ استراتيجي. إذا وافقت الرياض على تطبيع العلاقات مع إسرائيل، فلن يكون هناك الكثير للضغط على حكومة نتنياهو، أو أيِّ حكومةٍ إسرائيلية مستقبلية، لضمانِ تنازلاتٍ كبيرة وتسهيلِ تسويةٍ سياسية تُبَشِّرُ بالأمنِ لكلٍّ من الفلسطينيين والإسرائيليين.

وبمجرّد اندلاعِ الحرب، ساد شعورٌ مشؤوم ومتشائم بأنَّ كارثة إنسانية على وشك الحدوث. ولم يكن هناك شكٌّ في أنَّ الدول العربية ستُدين إسرائيل. أما الأمر الأقل وضوحًا فهو كيفية استخدام الدول العربية لنفوذها. لقد تَغَيَّرَ مشهدُ الطاقة بشكلٍ كبير منذ العام 1973، وبالتالي فإن “بطاقة النفط” لم تكن لتحظى بتأثيرٍ كبير اليوم.

وهذا يثيرُ هنا سؤالًا احول كيفية استخدام المملكة العربية السعودية لنفوذها في هذه الأزمة. في حين أن النفط لم يَعُد أداةً فعّالة للضغط على الولايات المتحدة وإسرائيل، فإنَّ الرياض لديها بعض الأدوات في ترسانتها الديبلوماسية التي -إذا تمَّ استخدامها بشكلٍ صحيح- ستمنحها كلمةً في تشكيلِ مُستقبل إسرائيل وفلسطين.

مع استمرارِ الحرب، تَفقُدُ كلٌّ من إسرائيل والولايات المتحدة مصداقيتهما. إنَّ تهجيرَ اللاجئين قسرًا من منازلهم، ثم قطع الإمدادات الإنسانية الأساسية عنهم، لا يُشَكّلان وسيلةً لكَسبِ أيِّ دعم، ناهيك عن إضفاء الشرعية على حملةٍ عسكرية. ومع تزايد الكارثة الإنسانية، تخسر الولايات المتحدة مصداقيتها الدولية، وبخاصة في الشرق الأوسط. وفي حين أنه من غير الواقعي أن نرى أيَّ إجراءٍ سعودي يُمكِنُ أن يُجبِرَ إسرائيل على وقف حربها في غزة، فإنَّ المملكة تستخدِمُ موقعها الرمزي كحارسٍ لأقدس الأماكن الإسلامية ضد إسرائيل.

تقودُ الرياضُ جُهدًا ديبلوماسيًا يهدفُ إلى توليدِ خطابٍ دولي يُشكّكُ في شرعية العدوان العسكري الإسرائيلي، والغطاء الديبلوماسي الأميركي الذي يستخدمه. ولا ترفضُ النُخَبُ الحاكمة السعودية حجّةَ الدفاع عن النفس الإسرائيلية فحسب، بل إنها تتجه أيضًا إلى هجومٍ ديبلوماسي. يرأس وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان لجنةً ديبلوماسية مُفَوَّضة من جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي للقيام بجولةٍ في عواصم دولية مختلفة والدعوة إلى وقفٍ فوري لإطلاق النار.

كانت المحطة الأولى للجنة في بكين ثم في موسكو. وكانت هذه إشارة واضحة إلى واشنطن بأنَّ السعودية لديها خيارات أخرى في هذا العالم المُتَعَدّد الأقطاب الذي يتطوَّرُ باستمرار. بالإضافة إلى ذلك، فإنَّ وجود اللجنة في الأمم المتحدة والمقترحات المستمرة من قبل المجموعة العربية-الإسلامية تهدف إلى مواصلة الضغط الديبلوماسي على الولايات المتحدة، من خلال تسليط الضوء عليها كعائقٍ أمام وقف إطلاق النار.

ويستخدم السعوديون أيضًا أداةً ديبلوماسية تمَّ التغاضي عنها: الصمت. إن رفضهم الصريح لأيِّ نقاشٍ سياسي قبل وقف إطلاق النار يُوَلّدُ أيضًا ضغوطًا من خلال عدم السماح لإسرائيل بأُفُقٍ سياسي واضح بعد الحملة العسكرية. وكما قال وزير الخارجية السعودي الشهر الماضي: “ما هو المستقبل الذي يمكن الحديث عنه عندما يتم تدمير غزة؟”.

لدى النُخَبُ الحاكمة السعودية سببٌ آخر لتجنّبِ أيِّ نقاشٍ حول “اليوم التالي”. فهم يعتقدون أنَّ طَرحَ هذه الفكرة لن يساعِدَ على التوصُّلِ إلى وقفٍ دائمٍ لإطلاق النار، ويمكن اعتباره تواطُؤًا في إعطاء الحملة العسكرية الإسرائيلية الحالية شرعية ضمنية مفقودة. الرياض كانت هناك من قبل.

في العام 2006، عندما اندلعت الحرب بين “حزب الله” وإسرائيل، كان للنُخَب الحاكمة السعودية آنذاك موقفٌ عملي يوازن بين انتقادِ كلٍّ من إسرائيل و”حزب الله”. وذكرت المملكة العربية السعودية في ذلك الوقت أنه على الرغم من دعمها للقضايا العربية، إلّا أنه “يجب التمييز بين المقاومة المشروعة والمغامرات غير المحسوبة التي تقوم بها عناصر داخل [لبنان] ومَن يقف وراؤها”.

ونظراً للرد المدروس، والتوقع العام بالإدانة الصريحة لإسرائيل، فقد تمَّ تفسيرُ هذا الانتقاد المزدوج آنذاك على أنه علامة ضمنية على التسامح مع سلوك إسرائيل. وهذا ما تُريدُ الرياض تجنّبه اليوم. وهي لا تريد أن تسمح لنفسها بأن يتمَّ تسييسها لتحقيق أهداف سياسية إسرائيلية. وبعبارة أخرى، تريد النُخَبُ الحاكمة السعودية تجنّب “التلفيق”.

غالبًا ما يُطلَقُ على نتنياهو لقب “سيد التدوير” أو “سيّد التلفيق”. ويعلم السعوديون أنهم إذا بَدَؤوا أيَّ نقاشٍ سياسي حول “اليوم التالي”، أو حتى وضع افتراضات حول السيناريوهات المستقبلية، فمن المؤكد أن هذا سوف يفسح المجال أمام ميول نتنياهو التلفيقية والكاذبة. ويمكن للمرء أن يرى كيف نسج نتنياهو المساعدة الطبية لغزة من قبل دولة الإمارات العربية المتحدة كما لو كان الدعم الإماراتي يستند إلى طلب نتنياهو، وليس استجابةً للأزمات الطبية الأليمة التي تحدث هناك. لدى السعودية فكرة جيدة عن كيفية صياغة تصرفاتها وتصريحاتها بطريقة تلفيقية وكاذبة حيث تشير إلى أنَّ السعوديين والإسرائيليين على الصفحة نفسها في ما يتعلق باليوم التالي لغزة، وهو أمرٌ بعيد كل البُعد من الواقع.

تتمتّعُ الرياض بنفوذٍ حقيقي عندما يتعلق الأمر بالتمويل. لن تتمكّنَ إسرائيل أبدًا من مجاراة القدرة المالية للسعودية ودول مجلس التعاون الخليجي الأخرى. فاقتصادها يُعاني، ووفقًا لتقريرٍ حديث لبنك إسرائيل المركزي، فإنها تخسر 600 مليون دولار أسبوعيًا خلال هذه الحملة العسكرية. كما توقع البنك المركزي الإسرائيلي أنَّ تكاليف الحرب من العام 2023 إلى العام 2025 ستصل إلى حوالي 53 مليار دولار.

وهذا على وجه التحديد ما يمنح السعوديين ودول مجلس التعاون الخليجي والدول العربية النفوذ، حيث يمكن استخدام أي جهود لإعادة الإعمار لدفع إسرائيل نحو عملية سلام حقيقية. وإلّا فإنها لن تكون سوى مسألة وقت حتى تجد المنطقة نفسها في الوضع نفسه مرة أخرى – إن لم يكن أسوأ.

لم يُعارِض السعوديون قط تقديم الدعم المالي للفلسطينيين. لقد قدّموا قدرًا كبيرًا من ذلك على مدى العقود الماضية، ولا يبدو أن هذا الدعم سوف ينحسر قريبًا. ما يكرهه السعوديون ويُغيظهم هو إعادة بناء غزة المُدَمَّرة من أجل الأمن الإسرائيلي – خصوصًا وأنَّ إسرائيل كانت الطرف الذي نفّذ التدمير.

هناك حاليًا اعتقادٌ ساذجٌ في إسرائيل وواشنطن بأنَّ المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي الأخرى ستدفع فاتورة الحملة العسكرية الإسرائيلية في غزة. ووفقًا لتسريبٍ للصحافة الإسرائيلية، فقد ورد أن نتنياهو قال أمام لجنةٍ برلمانية في 11 كانون الأول (ديسمبر) إن “الخطوة الأولى في غزة ستكون هزيمة “حماس”. بعد ذلك، أعتقد أن الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية ستدعمان إعادة بناء وتأهيل القطاع”.

إنَّ الافتراضَ بأن المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي سوف توافق بسهولة على دفع تكاليف إعادة إعمار الكارثة الموروثة، ومن ثم تحمل المسؤولية عن أمنها، يكشف عن الأوهام الساذجة التي يُرَوِّجُ لها كثيرون في إسرائيل والغرب. غالبًا ما تُصَوِّرُ الخطابات الغربية والإسرائيلية دول مجلس التعاون الخليجي على أنها جهات فاعلة غير عقلانية تنفق أولًا ثم تفكر لاحقًا، كما لو أن الوظيفة الوحيدة لدول مجلس التعاون الخليجي في النظام العالمي هي إلقاء الأموال على مشاكل الدول الأخرى. وهذا بعيدٌ من الواقع. في الوقت الحاضر، لا يتم إنفاق أي شيء في المملكة العربية السعودية إلّا إذا كان يخدم مصلحة المملكة. “السعودية أولًا” هو المبدأ الذي تقوم عليه السياسة الخارجية السعودية.

إحدى الصعوبات التي تُواجه جمع الأموال السعودية لجهود إعادة الإعمار هي أن المملكة العربية السعودية نفسها تمرُّ بعمليةِ إعادة بناء خاصة بها. في الوقت الحالي، وضعت البلاد على عاتقها مهمة ضخمة تتمثّل في إعادة هيكلة الدولة، وبناء المشاريع الضخمة التي تُعتَبَرُ بالغة الأهمية لمبادرة رؤية 2030، على أمل تنويع الاقتصاد السعودي بعيدًا من النفط في نهاية المطاف لضمان بقاء الدولة للأجيال المقبلة. السعوديون لديهم المال، لكنه مُخَصَّصٌ للاستثمار في مستقبل المملكة العربية السعودية. ومع ذلك، فإنَّ هذا لا يعني أن النخب الحاكمة السعودية غير مستعدة للاستثمار في الدولة الفلسطينية المستقبلية والمساهمة بشكل كبير في إعادة بناء بنيتها التحتية.

من الممكن زيادة الحوافز المقدمة للمملكة العربية السعودية وغيرها من الدول العربية للمساهمة في إعادة إعمار غزة إذا تمَّ تنفيذها على النحو الصحيح، وضمن الإطار الصحيح، وفي الأفق الصحيح، ومع الأهداف الصحيحة. ومن بين هذه الأهداف المشتركة الأمن الإقليمي، فقد أظهرت هذه الحرب أن القضية الفلسطينية لم يعد من الممكن إخفاؤها تحت البساط ووضعها على الهامش.

أظهرت هذه الحرب أيضًا أنَّ خطرَ التمدّد –من الحدود اللبنانية-الإسرائيلية إلى هجمات الحوثيين على السفن الدولية في البحر الأحمر قبالة ساحل اليمن– ينطوي على القدرة على زعزعة استقرار المنطقة بأكملها. ومن الممكن أن يخدم هذا الخطر الإقليمي كوسيلةِ ضغطٍ للسعوديين في مواجهة إسرائيل وكحافزٍ للسعي إلى تحقيق سلامٍ دائم.

“الازدهار الإقليمي” هو مُصطَلَحٌ شائعُ الاستخدام من قبل ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. ومن هذه الزاوية بالتحديد يمكن للمرء أن يرى الاستثمار السعودي في إعادة هيكلة غزة ولكن فقط كجُزءٍ من عملية سياسية ذات آفاقٍ سياسية واضحة تسعى إلى حلِّ القضايا الأساسية لهذا الصراع. تتمتع السعودية بالفعل بنفوذٍ على إسرائيل من خلال عدم عرض التطبيع، لكن قيادة الرياض لجهود إعادة الإعمار لا تؤدّي إلّا إلى تضخيم النفوذ السياسي السعودي على إسرائيل، لأنه بدون بنية تحتية فعالة في غزة، ستزداد المخاوف الأمنية لإسرائيل.

ونظرًا إلى طبيعة هذا الصراع وتعقيداته، لا يوجدُ زعيمٌ واحدٌ يمكنه تولي المسؤولية وأخذ الأمر على عاتقه، بل هناك عددٌ قليلٌ من القادة الذين يُمكنهم التأثير في الوضع باستخدامِ نفوذِ كلٍّ منهم في عمليةٍ مُتجانِسة ومُنَسَّقة. ومن غير المرجح الافتراض أن الرياض ستتولى زمام الأمور، على الرغم من السياسة الخارجية القوية التي تنتهجها المملكة في الآونة الأخيرة.

والحقيقة هي أن المملكة العربية السعودية كان لها دائمًا دورٌ قيادي في هذا الصراع، لكنها تُفضّلُ حاليًا نهج القيادة من الخلف. وقد سمح لها هذا النهج باستخدامِ ثقلها الديبلوماسي والرمزي من دون أن تكون على خط المواجهة السياسي ويحتمل أن تخاطر بمصالحها الاستراتيجية. توصلت النُخَبُ الحاكمة السعودية إلى نتيجةٍ مفادها أنها حشدت قدرًا كبيرًا من الجهد السياسي من أجل عمليةٍ غير مثمرة، وبالتالي لم تُقحِم نفسها أبدًا في تعقيدات مفاوضات الوضع النهائي الفلسطينية-الإسرائيلية.

المشكلة في عملية السلام السابقة هي أنها أثبتت أنها محكوم عليها بالفشل بُنيويًا، نظرًا للتفاوت الكبير في السلطة بين الفلسطينيين وإسرائيل والمُدافعين عنها بحماس في واشنطن. وقبل أن تتقدّم الرياض وتُظهِرُ المزيد من الحزم بشأن هذه القضية، تحتاج النُخَبُ الحاكمة السعودية إلى رؤيةِ أفقٍ سياسي واضح وبُنيَةٍ أفضل لعملية السلام. وعند هذه النقطة، ربما يستخدمون نفوذهم المالي الكبير لتشكيل النتيجة.

  • عزيز الغشيان هو زميل في مشروع الطائفية والوكلاء ونزع الطائفية في مركز ريتشاردسون في جامعة لانكستر، وزميل مشارك في مركز أبحاث السياسات التطبيقية مع الشرق. وهو متخصص في السياسة الخارجية السعودية تجاه إسرائيل. يمكن متابعته عبر منصة (X) على: @AzizAlghashian
  • يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالانكليزية في “فورين بوليسي” الأميركية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى