يوم تفرّ الآلهة
بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر*
رغم جوع أهل روما ومرضهم وحاجتهم، إلّا أن أحداً من حرافيشهم لم يتجرّأ على القفز فوق أسوار أولياء “النقمة” أبداً. كانت آلهة الأولمب تسكن قصور الزغب في أقاصي حدود الأمل، وتنظر من علِ إلى الضعفاء والمُعوَزين وذوي الحاجة، وتتلذّذ برؤية الدماء والأشلاء والبراميل المتفجرة وهي تسقط فوق رؤوس النساء والشيوخ والرضّع. وتضحك ملء أشداقها من فلاحي روما وهم يحرثون ما لا يأكلون ويمسحون دموعهم الحارة في أطراف ثيابهم المهترئة ليكملوا جزّ أعواد الأمل في حقول ليست لهم. وحين يعود البائسون إلى خيامهم المُبَعثرة في أطراف الممالك الخاوية على أحزانها كل مساء، تراهم يتقاسمون أرغفة البؤس مع صغارهم ويتشاطرون تراتيل الحمد لمن وهبهم نعمة البؤس التي ظلوا يتقلبون فيها بكرة وعشيا.
كان موت الآلهة مرادفاً للضياع التام والفوضى الخلاقة، فلا يموت منعم إلّا بموت النعمة. فكيف يتجرّأ أهل روما على زيوس وهو يملك السماء وما حَوَت والغيث والبروق والرعود؟ وكيف يثور الفلاحون الأجلاف على بوسيدون وهو رب الزلازل والمحيطات والخيول؟ وكيف يخرج البسطاء من أكمام الخوف لينادوا هيدز بإسمه الأول وهو رب الأرض وما فيها من ثروات وأرواح شريرة ومعتقلات؟
كان على أهل روما أن يسبحوا بحمد آلهة قتلت أباها وإستولت على ملك ظنّ يوماً أنه لن يبلى. كان عليهم أن يصنعوا آلهة على أعينهم، ثم يعبدونها كما كان الأعراب يفعلون قبل البعثة. وكان من حق آلهة الأولمب أن تكبر وتعلو وتنتفخ ذواتها وتتضخم حتى موت جوليان (آخر من سبح بحمدهم من ملوك الأرض). يومها، وضع زيوس حربته وأطفأ هيفستوس ناره، وغطت أفروديت مفاتنها، وضم بيغاسوس جناحيه وهزّ ذيله ليطرد الذباب عن مؤخرته مثل كافة خيول الأرض. يومها فرّت الآلهة عارية من كل سلطان أمام حفنة من المؤمنين الذين لم يكن لهم قبل المسيح حول ولا نشور.
كان البسطاء يشاهدون الآلهة تفرّ في الشوارع من تحت أنوفهم ويتلصّصون عليها من خلف النوافذ نصف المفتوحة، دون أن يمتلكوا شجاعة النظر إلى ظهورها المكشوفة. ولما خفّت الجلبة وخلت الشوارع من فلول الهاربين، نزل البسطاء يحتفلون ويضربون القداح. وظلت الآلهة تتسوّل اللقمة والثياب، وترتدي الأسمال البالية حتى ظن الهالكون أنهم صاروا بشراً مثلهم، أو أنهم صاروا آلهة يملكون الأولمب.
وما أن أغمض اللاهون جفونهم وأسلموها للنوم، حتى كرت عليهم الآلهة، ودحرجتهم من فوق سروج أحلامهم المشروعة إلى سفح أشدّ ظلمة ومرارة وخيبة. وبهذا، أثبتت آلهة الأولمب أنها حية لا تموت، وأنها قادرة على الجلوس حول مائدة الأوطان لتقسّم الخرائط وتوزّع الأرزاق وتُحيي وتُميت وترفع وتخفّض. كما أثبت الرومانيون أنهم الأشد ولاء للقمع والعبودية واليأس. لكنهم على الأقل لم يعودوا يحملون في صدورهم تباريح الإنتظار الممض، ولم تعد أعينهم تلمع مع ومضة أي فجر أو عشية إنعقاد أي قمة. وحين يعود المُنهَكون إلى بيوتهم كل مساء، تراهم يتقاسمون البؤس والهزيمة، لكنهم لا يؤدّون صلواتهم المعتادة لأنهم لم يعودوا يطلبون من آلهة الأولمب شيئاً، فقد علموا ذات وعي أن آلهتهم لا تملك لأنفسها ولا لشعوبها البائسة نفعاً ولا ضرّاً.
• أديب وكاتب وإعلامي مصري.