علاقاتُ بريطانيا التجارية الجديدة مع إسرائيل قد تُغيّرُ سياستها الخارجية تجاه فلسطين

تسعى بريطانيا منذ خروجها من الاتحاد الأوروبي إلى شركاء جدد لتوسيع دائرة تجارتها الخارجية ومصالحها، وقد ركّزت أخيرًا على إسرائيل حيث بدأت مفاوضات لعقد اتفاقية تجارة حرة بين البلدين.

“وادي السيليكون” الإسرائيلي: بريطانيا تتعطّش للتعاون معه

أليس غُوِير ونيل كويليام*

في تموز (يوليو) الفائت، أطلقت وزيرة التجارة البريطانية آن ماري تريفيليان مفاوضات مع إسرائيل لتأسيس اتفاقية تجارة حرة جديدة تُركّزُ على الابتكار. لقد أولت المملكة المتحدة دائمًا أولوية عالية لعلاقتها الثنائية مع إسرائيل، ولكن منذ خروجها من الاتحاد الأوروبي، استثمرت بريطانيا الكثير من الوقت والموارد في إعادة تنشيط هذه العلاقات، كجُزءٍ من طموحها الأوسع لإبراز نفوذها على المسرح العالمي وتعزيز قدرتها على مواجهة التهديدات المتزايدة. ومع ذلك، فقد أدى الأمر إلى تحوّلٍ بعيدًا من المواقف التاريخية للسياسة الخلرجية للبلاد، ولا سيما تجاه فلسطين – وهو اتجاهٌ سيصبح أكثر أهمية فقط حيث يسعى المتنافسان الرئيسيان في سباق رئاسة الوزراء في المملكة المتحدة إلى تمييز أنفسهما عن أسلافهما والاتحاد الأوروبي.

تُبنى الاتفاقية التجارية الجديدة على مذكرة تفاهم وقّعها البلدان في العام 2021، والتي تعهّدت بتطوير “خريطة طريق ثنائية بين المملكة المتحدة وإسرائيل” لتعزيز العلاقات وتحسين التعاون في المجالات الرئيسة، مثل الابتكار والدفاع والتنمية وتغيّر المناخ. كما تهتم لندن بشكل خاص بإبراز النفوذ في منطقة الخليج. ولتحقيق هذه الغاية، فقد عملت على تشجيع المزيد من تطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي، من خلال تعزيز مكانتها كشريك تاريخي لجميع الأطراف. يأتي ذلك في أعقاب توقيع اتفاقات أبراهام في آب (أغسطس) 2020، التي أقيمت بموجبها رسميًا علاقات ديبلوماسية بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة والبحرين، بتيسير من الولايات المتحدة.

من خلال متابعة التطبيع على نطاق أوسع، لا تسعى المملكة المتحدة فقط إلى لعب دور رئيس في دعمِ إطارٍ أمني إقليمي جديد قادرٍ على مواجهة إيران، ولكن أيضًا لضمان أن لندن في وضعٍ جيد للاستفادة من أي فرص اقتصادية جديدة تنشأ عن التطبيع نفسه. علاوة على ذلك، فهي حريصة على الاستفادة من انخفاض إنخراط واشنطن في الشرق الأوسط وتحوّل تركيزها نحو آسيا، وملء أي فراغ تتركه الولايات المتحدة بحيث تظل جميع القواعد مغطاة.

نظرًا إلى هذا السياق، ليس من المستغرب أن تتخذ المملكة المتحدة خطوات لتنشيط شراكتها مع إسرائيل وجعلها مُناسِبة للغرض في بيئة عالمية متغيرة. المملكة المتحدة هي أكبر شريك تجاري لإسرائيل في أوروبا من حيث الصادرات، وثالث أكبر شريك تجاري في العالم من حيث الصادرات والواردات. في العام 2021، قُدِّرَ حجم التجارة المُتبادَلة في السلع والخدمات بين الدولتين بحوالي 5.4 مليارات جنيه إسترليني، أو 7.7 مليارات دولار.

كان الأساس الأوَّلي لهذه الديناميكية التجارية هو اتفاقية العام 1995 التي نصّت على تجارةٍ خاليةٍ من الرسوم الجمركية، في الغالب للسلع البريطانية المصدرة. لكن الترتيب التجاري الحالي موروثٌ من الاتحاد الأوروبي بعد انسحاب المملكة المتحدة من الكتلة في العام 2020. واليوم، لندن ليست فقط حريصة على التفاوض على صفقةٍ جديدة تتماشى مع مصالحها الوطنية الحالية، ولكن أيضًا للتوضيح بأن موقف سياستها من إسرائيل يختلف عن التفكير الأوروبي الجماعي. غالبًا ما تعرّضَ موقف الاتحاد الأوروبي من إسرائيل، والذي يعطي الأولوية لحل الدولتين، لانتقادات لأنه لا يترك مجالًا للمناورة.

وعد مؤيدو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي داخل حزب المحافظين، مثل رئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماي ورئيس الوزراء المنتهية ولايته بوريس جونسون، ببناء “بريطانيا العالمية” الجديدة التي تلعب دورًا أكبر ومستقلًا في الشؤون الدولية. لكن من الناحية العملية، يبدو أن بريطانيا العالمية تتخلّى عن مظلة الاتحاد الأوروبي فقط لتتجه نحو الظل الوقائي للولايات المتحدة. يجادل البعض بأن هذا الحال كان دائمًا، ولكن لندن الآن – أو بشكل أكثر دقة، حكومة المحافظين الحاكمة – أظهرت استعدادًا متزايدًا لتوظيف الوضع “المارق” الحالي للبلاد في ما يتعلق بالاتحاد الأوروبي، مع الاستمرار في التوافق مع الولايات المتحدة.

ببساطة، ستُدخِل اتفاقية التجارة الحرة الجديدة اتفاقية العام 1995 إلى القرن الحادي والعشرين، وتُوَسِّعُ نطاقها لتشمل التعاون في مجالاتٍ تشمل التكنولوجيا والبيانات والأمن السيبراني والبحث والتطوير – القطاعات التي كانت في مهدها، أو حتى لم تكن موجودة أصلًا، عندما وُقِّعَت الصفقة الأولى.

من المعروف على نطاق واسع أن إسرائيل تمتلك واحدة من أكثر الصناعات التكنولوجية نشاطًا وتقدمًا في العالم. مع أكثر من 90 شركة “يونيكورن”، يعتبر “وادي السيليكون” قلب الابتكار التكنولوجي في الشرق الأوسط. تمتّعت الدولة العبرية بنجاحٍ مُوَثَّق جيدًا في هذا المجال نظرًا إلى نهجها العالمي في الحلول التقنية، وقد اختبرت وأثبتت ونشرت العديد من التقنيات في الوقت الفعلي في بيئتها المباشرة، مثل “بيل كام” (PillCam)، وهي كاميرا طبية قابلة للهضم، و”نتافيم” (Netafim)، وهو نظام ري صديق للصحراء.

بعبارة أخرى، تقدم إسرائيل الخبرة التي يمكن للمملكة المتحدة الاستفادة منها بشكل مباشر، لا سيما أنها تبحث عن أسواق دولية جديدة لتحل محل ترتيباتها التجارية مع الاتحاد الأوروبي، والتي تعقّدت بسبب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وفي الوقت نفسه، تعمل المملكة المتحدة أصلًا كنقطة انطلاق للعديد من الشركات التكنولوجية الإسرائيلية الناشئة، لأن العمل هناك يوفر الوصول إلى رأس المال بالإضافة إلى مزايا التكنولوجيا التقدمية والداعمة والنظم والقوانين المالية. على هذا النحو، ستبني اتفاقية التجارة الحرة الجديدة على أسس متينة، مما يمكّن كلا البلدين من تبادل المواهب والأفكار والعمل عن كثب فيما يستفيدان من المزايا النسبية التي تتميز بها كل دولة.

بالطبع لن يقتصر التعاون على المجال التجاري. وقّع البلدان لأول مرة اتفاقية دفاع عسكرية في كانون (ديسمبر) 2020، لكن شهية المملكة المتحدة للوصول إلى المعدات الإسرائيلية والخبرة العملياتية لا تزال تنمو. على سبيل المثال، وقّعت شركة الدفاع بابكوك التي تتخذ من لندن مقراً لها أخيرًا مذكرة تفاهم مع الشركة الإسرائيلية الكبرى “صناعات الفضاء الإسرائيلية” والشركة التابعة لها “إيلتا سيستمز” (ELTA Systems). وافقت الشركتان الإسرائيليتان بشكل فعال على تزويد برنامج تحديد موقع الأسلحة من طراز “سيربنس” (Serpens) التابع للجيش البريطاني برادار بعيد المدى من “الجيل التالي”.

ومع ذلك، فإن استخدام التقنيات الإسرائيلية في الأمن والدفاع كان نعمة ونقمة للقوى الغربية. من خلال الأدوات عالية التقنية التي تتراوح من برنامج التجسّس “بيغاسوس” (Pegasus) سيئ السمعة إلى نظام الدفاع الجوي “القبة الحديدية”، أثبتت إسرائيل أن لديها القدرة على مساعدة الحكومات الأجنبية وإعانتها في المراقبة والحماية واحتواء التهديدات. تم استخدام برنامج التجسس بيغاسوس لاستهداف النشطاء السياسيين ونشطاء حقوق الإنسان والمُعارضين والصحافيين في البحرين والأردن والإمارات العربية المتحدة، وكذلك في أماكن أخرى، من خلال اختراق أجهزة اتصالاتهم ومراقبة حركاتهم وأنشطتهم. ومع ذلك، نظرًا إلى الهيمنة المتزايدة –أو كما قد يراها البعض، التهديد– من الصين، لا سيما في الفضاء الإلكتروني، وكراهية روسيا للمملكة المتحدة بسبب دعمها القوي لأوكرانيا -إلى جانب أسباب تاريخية أخرى- فمن الواضح أن لندن تأمل في جعل العمل المشترك في مجال التكنولوجيا العسكرية والأمن السيبراني ركيزة أساسية للشراكة الثنائية.

يرغب كلا البلدين في تحسين العلاقات التجارية والدفاعية في ضوء الصورة الجيوسياسية المتغيرة. من خلال القيام بذلك، لن يُقدمّا دعمًا سياسيًا وديبلوماسيًا مهمًا للولايات المتحدة فحسب، بل سيضمنان أيضًا أن يظل كلٌّ منهما وثيق الصلة بواشنطن. وبالتالي، من غير المرجح أن تشعر حكومة المملكة المتحدة الحالية بالقلق من استخدام أو إساءة استخدام التقنيات الإسرائيلية من قبل دول أخرى في المنطقة، ولكنها ستظل بدلًا من ذلك تُركّزُ على التهديدات الاستراتيجية الأكبر.

أما بالنسبة إلى إسرائيل، فإن علاقتها مع الولايات المتحدة ليست في خطر، ولكن مع تزايد احتمال فشل محاولات إحياء الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015، إلى جانب حقيقة أن اهتمام الولايات المتحدة قد تحوّل شرقًا، فمن المرجح أن تقبل إسرائيل بسهولة جهود تقاسم بريطانيا الأعباء مع الولايات المتحدة بشأن القضايا الإقليمية الملحة، فضلًا عن الدور الذي يمكن أن تلعبه كعازل ديبلوماسي مع دول الخليج. من المرجح أن تستغرق خطط الولايات المتحدة لتطوير إطار عمل أمني إقليمي جديد عقودًا حتى تؤتي ثمارها. في غضون ذلك، قد تنجح المملكة المتحدة في القيام بدور مميز لنفسها كقدرة داعمة.

بطبيعة الحال، فإن التركيز المتجدد على العلاقة بين المملكة المتحدة وإسرائيل يتناسب مع نهج لندن العام للتفاوض على اتفاقات التجارة الحرة مع الشركاء الرئيسيين، وخصوصًا مع مجموعة جديدة من البلدان خارج نطاق الاتحاد الأوروبي. في الواقع، تسعى المملكة المتحدة بنشاط إلى اتفاقية تجارة حرة أخرى مع دول مجلس التعاون الخليجي تحت قيادة كبير المفاوضين توم وينتل. اتفاقية التجارة بين الاتحاد الأوروبي ودول مجلس التعاون الخليجي قد عفا عليها الزمن الآن – على الرغم من تقديم المقترحات الأخيرة لمعالجة ذلك – وتُريد المملكة المتحدة بالتأكيد إستغنام الفرصة لتاخر الكتلة من خلال الوصول إلى هناك أوّلًا.

نتيجة لإعطاء الأولوية للعلاقات مع دول الخليج من قبل الحكومات البريطانية المتعاقبة منذ العام 2010، يمكن القول إن علاقات لندن بالمنطقة أقوى مما كانت عليه في أي وقت مضى. الآن، من خلال دعم وتعزيز وتشجيع العلاقات المالية والتقنية والأمنية والطاقة والبيئية والتجارية المتنامية بين إسرائيل والخليج، يمكن للمملكة المتحدة ضمان بقاء الشركات البريطانية الخاصة مركزية في العلاقات المزدهرة في المنطقة. على هذا النحو، فإن تعزيز العلاقات الثنائية مع إسرائيل من خلال التجارة يخدم أيضًا المصالح الأوسع للمملكة المتحدة، ليس فقط في الخليج، ولكن في أي مكان آخر في الشرق الأوسط، مثل مصر والأردن.

أخيرًا، دفع رئيس الحكومة بوريس جونسون للارتقاء بالعلاقات بين المملكة المتحدة وإسرائيل وترقيتها، ولتحقيق ذلك بسرعة يعني أن المواقف السياسية التقليدية التي تتكبدها وزارة الخارجية والكومنولث والتنمية والإدارات الأخرى مُهَدّدة – وعلى الأخص، دعمها للسلام العادل بين دولة فلسطينية مستقرة وديموقراطية وإسرائيل، على أساس حدود العام 1967، والذي من شأنه إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية باتفاق تفاوضي.

على الرُغمِ من أن حكومة المملكة المتحدة لا تزال ملتزمة بحل الدولتين لفلسطين وإسرائيل، تعهّدت ليز تروس، وزيرة الخارجية الحالية والمنافسة الرئيسة والمرجّحة لقيادة حزب المحافظين، بنقل سفارة المملكة المتحدة من تل أبيب إلى القدس إذا أصبحت رئيسة للوزراء. سيُقرأ القيام بذلك على أنه عرضٌ رمزي لدعم مطالبات إسرائيل بالمدينة وقد يلقى استحسانًا في الدولة العبرية. لكنه قد يخاطر أيضًا بتعريض العلاقات مع جميع قادة الخليج بضربة واحدة، ما يؤدي إلى إبطاء أي تقدم بشأن اتفاقية التجارة الحرة مع دول مجلس التعاون الخليجي. لا تستطيع المملكة المتحدة تحمّل أي فعل آخر لإيذاء النفس بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

  • نيل كويليام هو زميل مشارك في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في تشاتام هاوس. يُركّز على الطاقة والعلاقات الدولية مع تخصص في الخليج والأردن وسوريا. يمكن متابعته عبر تويتر على: @NeilQuilliam1 وأليس غُوِير هي مديرة الجغرافيا السياسية والأمن في “Azure Strategy“. ديبلوماسية سابقة، تقدم المشورة للحكومات والشركات حول التطورات الرئيسة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى