العصيان الأسود
بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر*
زامبيا دولة صغيرة بحجم مفحص قطاة في محيط زاخر بالسواد والقلق في غرب القارة الهرمة، لكنها رغم واقعها البائس وحجمها الصغير تستطيع أن تُبهر العالم كل صباح، وأن تُخرِج من معطفها الأسود المملوء بالفول السوداني قرارات بحجم المحيط. فها هي الدولة القزم التي لا تتجاوز مساحتها ولاية تكساس الأميركية تُعلن تعملقها المباغت لتقفز فوق أسوار المنظمات الدولية رافضة القهر والظلم والتمييز. وكما إستطاعت زامبيا أن تتحرر من وصاية المملكة المتحدة في العام 1964، وتتمرّد على دول الكومنولث في العام 2013، وأن تُعلن نفسها جمهورية إسلامية في العام 2015، ها هي تقرر اليوم إنسحابها المبيت من المحكمة الجنائية الدولية إعتراضاً على التمييز المُتعمَّد ضد اللون.
بالأمس فقط، أعلنت زامبيا في نشرة المساء إنسحابها من “محكمة القوقاز الدولية لإضطهاد وإذلال الملوّنين ولا سيما الأفارقة”. ولم يكن خلف القرار ثمة علامة تعجّب، فقد سبقتها جنوب إفريقيا وبوروندي إلى قرار مماثل منذ أيام، لكن نص القرار الذي أذاعته القناة الإخبارية والناطقة بإسم الحكومة والحزب الحاكم جاء مثيراً ومُباغتاً، مما دفع بعض الحقوقيين إلى مهاجمته والرد عليه، لكن بنسودة الزامبية الأصل والتي تشغل منصب المدعي العام للوكالة الجنائية الدولية رفضت التعقيب على تصريحات يحيى جامع رئيس البلاد، وقالت: “لا يجب أن نشعر بالإحباط أو الهزيمة لدينا تحديات نعم، لكننا سنحصيها ونواجهها.”
لكن رباطة جأش السيدة وهي ترد على أسئلة الصحافيين، لم تخفِ توتّرها، ولم تهدّئ من روع المراقبين الذين يخشون من تمرد إفريقي جماعي لا سيما بعدما أعلنت أوغندا وكينيا أنهما تفكران في الأمر نفسه حالياً، وأنهما تنتظران إنعقاد القمة الإفريقية التي سيكون قرار الإنسحاب من المحكمة الدولية على رأس أولوياتها. الأمر خطير جداً لمن لا يريدون دفن رؤوسهم في رمال إفريقيا الحارة، فهو ينذر بإنتهاكات إفريقية جمّة لن تبقى ولن تذر حقوق إنسان بها. لكن المتتبع لقرارات المحكمة الدولية التي لم تدن إلا ستة رؤساء أفارقة وأبرزهم البشير السوداني يلقي ظلالاً من الشكوك المبررة حول شفافية المنظمة وحياديتها، كما يقوّي شوكة يحيى جامع المُتّهم من قبل منظمات حقوقية كثيرة بممارسة القمع والفاشية ضد أصحاب الرأي والقلم، وهو ما دفع الإتحاد الأوروبي إلى قطع معوناته المادية والعينية عن الدويلة السمراء منذ عام ونيف.
ما يتخوّف منه المعارضون في زامبيا أن تقوّي قرارات القمة الإفريقية شوكة النظام “القمعي” الذي “يكمّم الأفواه ويطارد المعارضين حتى آخر حدود الوطن”. فهو نظام “غير دستوري جاء بإنقلاب أبيض قاده الملازم أول يحيى جامع في العام 1994″، والذي إستمر في حكم بلاد لم يستطع إستثمار سدس مواردها حتى اللحظة، رغم وفرة الطمي والماء في طول البلاد وعرضها. وبدلاً من التثوير والتحديث، لجأ النظام إلى فرقعات سياسية إعلامية ليس آخرها إعلانه اكتشاف علاج للإيدز من الأعشاب البرية.
المهم أن يحيى جامع إستطاع أن يزمّ حاجبيه في وجه مواطنته السمراء وأن يرفض بملء عباءته البيضاء الإنضواء تحت منظمة لا تجيد إلا قنص الأفارقة ولا تطارد إلا ذوي البشرة السوداء، وقد يكون الرجل مُحقّاً هنا، إذ لم تدن تلك المحكمة يوماً العابثين بشواربها ومؤخرتها المكتنزة من البيض والصفر في آسيا أو أوروبا أو الأميركيتين. قد يكون يحيى مُحقّاً لأن الفظائع التي يمارسها بوتين وأوباما في بلادنا المنكوبة تمر من تحت أنف المنظمة من دون تعليق أو شجب أو إدانة، وكأن القوانين الأممية لم تخلق إلّا لتعلق المشانق حول الرقاب السوداء.
زبدة القول أن إفريقيا بدأت تتمرد على قيودها الأممية، وترفع راية العصيان ضد الغزاة والحماة والمتآمرين، وضد المنظمات والهيئات والعصابات التي تاجرت بأحلامها البيضاء في العيش والحرية والكرامة، فماذا نحن – العرب – فاعلون؟ هل ننضم بعد أن مَسَّنا وأهلنا الضرر من منظمات وهيئات لم ترقب في دمائنا وأراضينا إلّا ولا ذمة لننضم إلى معسكر المعارضين تحت راية سوداء؟ أم نظل نخلع نعالنا عند باب كل هيئة موقَّرة، ونطأطئ رؤوسنا بعد كل حكم جائر؟ سؤال سيجيب عنه الغد، والغد عند ناظره قريب.
• أديب وكاتب وإعلامي مصري.