إيران: كيف يُعَرقِل الحرس الثوري السياسة الخارجية للإنفتاح على العالم

على الرغم من الإنفتاح على العالم الذي بدأه الرئيس حسن روحاني منذ وصل إلى السلطة، وتحقيقه الإتفاق النووي مع القوى الدولية الست بما فيها الولايات المتحدة، لم يستطع بعد الإستفادة إقتصادياً وسياسياً من ذلك، ويعود السبب إلى أن الحرس الثوري الإيراني عرقل المسار أمامه للدخول إلى العالم…

الرئيس حسن روحاني: "الشيخ الديبلوماسي"
الرئيس حسن روحاني: “الشيخ الديبلوماسي”

طهران – هشام الجعفري

لدى إيران مشكلة كبرى تتمثّل بالعقدة الصناعية العسكرية التي تُهيمن على عقول فريق مهم من النظام والذي يقف في طريق أي محاولة إيرانية نحو الإعتدال السياسي. رأسه المنظور هو الحرس الثوري الإسلامي، الوصي المُسلّح على النظام منذ العام 1979. ونتيجة لهذه الظاهرة، فهو يأتي في أشكال مختلفة ويؤثر في كل جانب من جوانب الحياة في الجمهورية الإسلامية.
منذ وصوله إلى السلطة في العام 2013، حاول الرئيس المعتدل حسن روحاني بحذر صدّ العقدة الصناعية العسكرية من طريق الإنفتاح على إستمالة قيادة الحرس الثوري وإقناعها برؤيته للمستقبل. ومحاولة روحاني، التي عرّفها بأنها صيغة “الفوز للجميع”، هي بسيطة: يجب على مسؤولي الحرس الثوري قبول التغيير، وفي المقابل، فإنهم لن يكونوا مُستَبعَدين من الفرص الإقتصادية بعد رفع العقوبات. لكن هؤلاء القادة المتشددون لا يزالون قلقين على حد سواء من روحاني ورؤيته لمستقبل إيران. وقد أثبتوا مراراً أنهم على إستعداد لمواجهة الرئيس وفريقه إذا شعروا بأنهم مُهَدَّدون.
هدف الحرس الثوري
بالنسبة إلى العالم الخارجي، فإن تقويض الحرس الثوري لنفوذ حكومة روحاني المُنتَخبة هو أمر سهل الملاحظة. من ألعاب حربه الدورية وإطلاق الصواريخ لعرض قوته، إلى الإعتقال المُتعمَّد للإيرانيين الذين يحملون جنسيتين من قبل إستخباراته لإحراج الرئيس، فإن الحرس الثوري لا يخفي نيته لكشف حدود القوة والسلطة لدى روحاني.
في الوقت عينه، فإن الكثير من وسائل الإعلام الايراني المتشددة، التي هي في أيدي الحرس الثوري الإيراني، تعيد بإستمرار نشر وبث تصريحات مُبَطَّنة بأن روحاني وفريقه مُتطفلان أو متسللان عازمان على تحويل الطابع الثوري للدولة من الداخل. وقد تمّ رسم خطوط هذه المعركة الحاقدة بعد فترة وجيزة على صعود روحاني إلى الرئاسة في العام 2013، وحثّه جنرالات الحرس الثوري على البقاء بعيداً من السياسة والإقتصاد.
وردّ قائد الحرس الثوري الإيراني الغاضب محمد علي جعفري بأن بعضهم في داخل النظام “لا يُظهِر وجهه الحقيقي”، وهو تصريح سلبي أثار تساؤلات حول ولاء روحاني للجمهورية الإسلامية. من جهته أجاب روحاني، الرجل الذي كان جزءاً لا يتجزأ من النظام منذ العام 1979، بدوره وقال إن ” إطلاق الصواريخ (من قبل الحرس الثوري) وإجراءات مناورات عسكرية لتخويف الجانب الآخر ليس ردعاً جيداً”. ولحسن التدبير، أكد روحاني أنه حصل على دعم المرشد الأعلى آية الله خامنئي، القائد العام (والسلطة النهائية) للجنرالات الصقور.
وفعلها روحاني ونجح. على الأقل كان الأمر كذلك حتى الإتفاق النووي في تموز (يوليو) 2015 بين إيران والقوى العالمية عندما أعلن الخميني بأن الحرس الثوري وحده لديه الوزن للتأكد من أن الإتفاق الذي وقّعه فريق روحاني — وقَبِله خامنئي على مضض لتجنب إنهيار إقتصادي- لا ينتهي به المطاف ليصبح بداية لقائمة طويلة من المطالب الأميركية.
هذا الصيف، عندما تحدث آية الله علي أكبر هاشمي رفسنجاني، الرئيس السابق المؤثّر ومناصر لحكومة روحاني، معارضاً لمزيد من عسكرة إيران وأشاد بألمانيا واليابان اللتين كانتا من القوى العسكرية الكبيرة التي حوّلت طاقاتها بنجاح إلى التنمية الاقتصادية، رأى قادة الحرس الثوري في ذلك أنه تجاوز الخط الأحمر. لذا إنتُقِد رفسنجاني بأنه ساذج لمقارنته بين الجمهورية الإسلامية الصاعدة والقوى المهزومة في الأمس. وهذا هو الشعور الذي ردّده خامنئي في كل مرة حثّ فيها المعتدلون الإيرانيون على موقف أكثر إعتدالاً في مجال السياسة الخارجية.
محور الحرس الثوري – خامنئي
إن تبجيل خامنئي للحرس الثوري الإيراني هو تماماً لخدمة مصالحه الذاتية. فالعودة إلى فترة الحرب بين إيران والعراق (1980-1988)، عندما إحتل خامنئي نفسه منصب رئاسة الجمهورية تفيد بأنه كان شخصية أكثر إعتدالاً، ولم يكن حليفاً مُقرَّباً من الحرس الثوري. في الواقع، توجد أمثلة عدة عن إقدام قادة الحرس الثوري على حرمانه من حق زيارة جبهات القتال بسبب مواقفه السياسية. ولكن منذ أن أصبح خامنئي المرشد الأعلى في العام 1989، كانت إستراتيجيته قائمة على تأليب الرؤساء المُنتَخبين ضد جنرالات الحرس الثوري المُعَينين وغير المنتخبين للحفاظ على مكانته كلاعب رئيسي مركزي للنظام. خلال 26 عاماً في سدة الحكم، كان ترفيع دور الحرس الثوري مُقامرة سياسية بعيدة المدى لخامنئي – واحدة يبدو أنها كانت مُثمِرة. اليوم فإن قبضته على السلطة تعتمد على ذلك، رغم أن منتقدين كثيرين يشيرون إلى الصلاحيات المُطلَقة التي أنعمها على الحرس الثوري والتي حوّلته إلى أكثر بكثير من مجرد حامٍ مُسلَّح للنظام. إن المصالح الإقتصادية لمؤسسة الحرس الثوري هي سهلة على التحديد. منذ نهاية الحرب بين إيران والعراق، إنتقلت هذه المؤسسة الثورية من التركيز على الطرق، والسدود، ومشاريع بناء أخرى … إلى قطاعات متنوعة مثل الإتصالات السلكية واللاسلكية، والطيران، والشحن، والنفط والغاز. إن نفوذها السياسي يصعب تحديده، ولكن من الواضح أن جنرالاتها يسعون إلى لعب دور حارس البوابة في السياسة الإيرانية. وهو دور لا يسود دائماً، ولكن ذلك لا يمنع قادتها من تكرار المحاولة.
الواقع أن فك الإرتباط بين خامنئي والحرس الثوري كان مهمة جبارة وصعبة لفريق روحاني الذي قاربه بحذر شديد. في مجال السياسة الخارجية، عندما تولى وزير الخارجية جواد ظريف مهمته جاء بحاشيته الخاصة لكنه أبقى على شخصية بارزة من ادارة محمود أحمدي نجاد. وكانت هذه الشخصية حسين أمير عبد اللهيان، نائب وزير الخارجية للشؤون العربية والإفريقية. ولم يكن لهذا القرار أية علاقة بأحمدي نجاد.
لقد أبقى ظريف على عبد اللهيان في هذا المنصب لإسترضاء الحرس الثوري الإيراني الذي كان يعتبر بأن الوزير هو ضد تدخل الجنرالات في وزارة الخارجية. وعبد اللهيان الذي يتحدث العربية، وسفير سابق في البحرين، هو من المُقرّبين لقاسم سليماني، رئيس الفرع الخارجي للحرس الثوري، فيلق “القدس”. إلا أنه بعد التوقيع على إتفاقية التعاون النووي بدأ ظريف يوطّد سيطرته في وزارة الخارجية. وفي حزيران (يونيو) 2016، أُعفي عبد اللهيان من منصبه. جاء ذلك في الوقت الذي كانت هناك آمال حول إمكانية التوصل إلى إتفاق بين الوزير ظريف ووزير الخارجية الأميركي جون كيري للبناء على الإتفاق النووي والتوصل إلى تعاون في الأزمات الإقليمية مثل تلك الموجودة في سوريا واليمن، حيث كان الحرس الثوري يقود الجهود الإيرانية. وقد إحتجت وسائل الإعلام التي يسيطر عليها الحرس الثوري وإدّعت بأن إقالة ظريف لعبد اللهيان كانت تنازلاً للولايات المتحدة والدول العربية الخليجية.
وأصبح عبد اللهيان بسرعة مستشاراً خاصاً لعلي لاريجاني، رئيس البرلمان الإيراني وأحد الموالين لخامنئي. والإصرار من قبل محور الحرس الثوري – خامنئي في الحفاظ على عبد اللهيان على الساحة وفي دائرة الضوء هو مثال جيد على المعارضة الحادة التي واجهها ويواجهها ظريف وهو يسعى إلى إعادة تشكيل السياسة الخارجية الإيرانية. في الظهور العاصف لظريف أمام البرلمان في 2 تشرين الأول (أكتوبر)، شكك النواب المؤيدون للحرس الثوري بإقالته لعبد اللهيان في الوقت الذي هاجموا أداءه العام، مخوِّفين ظريف بشتى الطرق الأمر الذي دفعه إلى القول بأنه فخور بأن يكون “قريباً من [أخوي] قاسم سليماني و [زعيم حزب الله] حسن نصر الله”. إن التوبيخ العام، ومعالجة ظريف لذلك، يَعرُضان بوضوح الطبيعة المُفَكَّكة لعملية صنع القرار في مجال السياسة الخارجية في طهران.
وكانت هناك إختبارات أخرى لفريق روحاني لا تقل مشقّة وصعوبة في عالم الاقتصاد، حيث أن مصالح الحرس الثوري راسخة بشكل عميق. وهنا، ما يعادل ظريف هو وزير النفط بيجان زانجانه. ومنذ عودته إلى وزارة النفط في العام 2013، دفع “قيصر” النفط المخضرم بإتجاه إطلاق “عقد إيران للنفط”، وهو نموذج تعاقد جديد يهدف إلى جذب شركات النفط والغاز الأجنبية للإستثمار في الجمهورية الإسلامية.
وردّ الحرس الثوري وحلفاؤه في البرلمان وفي مجتمع الأعمال، مهاجمين في كثير من الأحيان “عقد إيران للنفط” على أنه غير دستوري وبمثابة الخضوع لمطالب المستثمرين الأجانب. إنهم يخشون من أن حكومة روحاني التي تركز على الغرب سوف تحوّل المشاريع بعيداً من شركات الطاقة المحلية، التي كثير منها يرتبط بالحرس الثوري.
كما هو الحال مع رئيسه روحاني، فقد إختار زانجانه البحث عن سبل لتخفيف معارضة المتشددين. “خاتم الأنبياء”، وهي مجموعة يسيطر عليها الحرس الثوري تم وضعها على لائحة ثماني شركات إيرانية فقط التي يمكنها أن تشكل فريقاً مع شركات طاقة أجنبية كجزء من “عقد إيران للنفط”. في أوائل تشرين الأول (أكتوبر) الجاري، تم منح أول رخصة لعقد إيران للنفط” إلى شركة تتشارك مع “سيتاد” (Setad)، وهي مجموعة يسيطر عليها مكتب المرشد الأعلى.
عندما يكون الأمر مُمكناً، يبدو فريق روحاني بأنه يفضل الإستقطاب للتغلب على المعارضة من جماعات المصالح المرتبطة بالمتشددين مثل الحرس الثوري الإيراني. إن الجهود الجارية لإستيعاب مصالح هذه المؤسسة الثورية المُحتَملة كجزء من إصلاح قطاع الطاقة من قبل الحكومة يوفّر حالة في هذا المجال. وهناك مرات أخرى لا يملك فيها فريق روحاني ببساطة مجالاً كبيراً للمناورة. وخير مثال على ذلك حدث أخيراً ويشمل علاقة طهران مع “منظمة العمل المعنية بالإجراءات المالية” “فاتف” ((FATF، وهي هيئة حكومية دولية مُكَلّفة بمكافحة غسل الأموال. وقد قاد الحرس الثوري محاولة لرسم هذه الهيئة كمنظمة تسيطر عليها الولايات المتحدة، ومقرها باريس، والتي تسعى إلى التدخل في المعاملات المالية الإيرانية مع العالم الخارجي لإضعاف علاقات ايران بالمجموعات التي تصفها طهران بأنها جزء من حركة المقاومة، مثل “حزب الله” في لبنان. من وجهة نظر الحرس الثوري، فإن الالتزام بقواعد “منظمة العمل المعنية بالإجراءات المالية” يضع عملياته في خطر، ولكن روحاني كان حتى الآن قادراً على القول بأنه لا يوجد بديل سوى تحقيق متطلبات “فاتف” إذا أرادت طهران تحسين سمعة إقتصادها دولياً. وفي مواجهة المصالح الراسخة للحرس الثوري، مع ذلك، فإن قوة روحاني في الاقناع هي أبعد ما تكون من الحل.
وفيما فترة روحاني الرئاسية الاولى تشارف على نهايتها، فإن صيغة حكومته كانت في أحسن الأحوال متفاوتة في النجاح. لم يفز الرئيس المعتدل ومساعدوه الرئيسيون، مثل ظريف وزانجانه بحجج السياسة بسبب وزنهم السياسي أو الإقناع ولكن بحكم المساومة وكلما كان ممكناً إستيعاب المصالح السياسية والاقتصادية للمتشددين – ولاسيما تلك التي تخص الحرس الثوري. وقد ثبت أن المهمة كانت عملية شائكة، وأنها سوف تستمر في أن تكون شائكة إذا فاز روحاني بفترة رئاسية ثانية في العام 2017. بالنسبة إلى روحاني، كان الإتفاق النووي في 2015 مع العالم الخارجي ليس غاية نهائية في حد ذاته. لقد كان منصة للبناء عليها كجزء من محاولة أوسع لجعل إيران دولة أكثر إنتشاراً وقبولاً على الصعيد العالمي. ومع ذلك، يبقى سؤال كبير حول مدى إستعداد جنرالات الحرس الثوري للسفر والسير مع الرجل الذي يحب أن يَطلق على نفسه لقب “الشيخ الديبلوماسي”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى