بَعدَ غزّة، الاستياءُ من الولايات المتحدة يَزدادُ في الشَرقِ الأوسط

مايكل يونغ*

يعتقدُ كثيرون أنَّ من بين الذين قد يخسرون من الحرب في غزة إدارة بايدن والولايات المتحدة بشكلٍ عام. لأشهرٍ عدّة، قامت واشنطن بتغطيةِ الحملة العسكرية الدموية الإسرائيلية، ومنعت الدعوات لوقف إطلاق النار، وأعادت تسليح القوات المسلحة الإسرائيلية بدون أيِّ قيودٍ على كيفية استخدام أسلحتها.

علاوةً على ذلك، فقد أضرَّ هذا النهجُ بمصالح الولايات المتحدة. لم يؤدِّ استمرارُ الصراع في غزة إلّا إلى زيادة احتمال انتشاره إقليميًا وجَذبِ الأميركيين. والهجمات المُستمِرّة ضد الحوثيين هي مثالٌ على ذلك. وبينما يواجه الرئيس جو بايدن ناخبين أكثر انعزالية في عامٍ انتخابي، فهو لا يستطيع أن يتحمّلَ وقوعَ القوات الأميركية في فخِّ حربٍ أُخرى في الشرق الأوسط.

لكن هناك قضية أخرى سيتعيَّن على الأميركيين أن يتعاملوا معها قريبًا. أدّت حربُ غزة إلى تفاقم الصَدَعِ المُتزايد حولَ الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي في مجتمعات المنطقة، التي تواصل الاستجابة لمصير الفلسطينيين بمشاعر عميقة.

لقد ضخّت هذه المشاعر بدورها بُعدًا أخلاقيًا في المناقشة، الأمر الذي أدّى إلى تفاقُمِ الاستياء والغضب ضدّ الولايات المتحدة. على المستوى المجتمعي، أكّدَت حربُ غزّة للعديد من العرب أنَّ الولايات المتحدة لا تَعتَبرُ حياة الفلسطينيين، أو حياة العرب بشكلٍ عام، مُعادِلة لتلك التي تعتبرها غربية، مثل حياة الإسرائيليين. لا يستطيع الكثيرون من العرب أن يفهموا كيفَ يُمكن للمرء أن يُفسِّرَ مقتل ما لا يقل عن 24 ألف إنسان بالإشارة إلى مقتل نحو 1200 إسرائيلي في السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، وهو حادثٌ وحشي باعترافِ الجميع.

في صحيفة “واشنطن بوست”، أعرب الكاتب المصري عبد الرحمن الجندي عن هذا الشعور بخيبة الأمل، فكتب: “لم يُبنَ هذا العالم قط لاستيعابنا. حتى في الدوائر الأكثر تقدّمية، فإننا نُشَكِّلُ اضطرابًا لا يُمكِنُ التسامحُ معه إلّا إذا بقينا نموذجًا رمزيًا للعرب: سائغون وخجولون، نُقدّمُ الإدانات المُسبَقة قبل المطالبة بإنسانيتنا”.

ولذلك فإنَّ الانقسامَ الجديد بين العالم العربي وواشنطن، بسبب غزّة، أصبح أكثر جوهرية، بل وأكثر عاطفية. فهو مَبنيٌّ على تصوُّرٍ مفاده أنَّ الوعدَ الأميركي لا يمتدُّ إلى شعوب المنطقة، التي سعت الإدارات الأميركية الثلاث الماضية، مهما كانت خلافاتها الأخرى المتعددة، إلى التحرّر منه.

ويتكرّرُ هذا الصَدَعُ داخل الولايات المتحدة. لقد أصبح من الملاحظ على نحوٍ متزايد أنَّ فلسطين، التي ظلّت حتى الآن قضية هامشية في الخطاب السياسي الأميركي، تتمتع بقدرةٍ مُدهِشة على تعبئة الأميركيين، وخصوصًا الشباب منهم. وهذا لا يعني أنَّ النفوذَ الإسرائيلي قد تضاءل، ولكن في حين كان هناك إجماعٌ واسع النطاق بين النُخَب الأميركية على مركزية العلاقة مع إسرائيل، فإنَّ هذا الأمر أصبح اليوم موضع خلاف أكبر بكثير.

يأتي كل هذا على رأس موقف جديد بين زعماء المنطقة، يُركّزُ على ملاحقة المصالح الوطنية والتوقّف عن قبول أولويات الولايات المتحدة باعتبارها أولوياتهم. وقد تُخَلِّفُ هذه الديناميكيات ــ-الدول العربية الأقل استعدادًا للانصياع لأوامر واشنطن، والمجتمعات العربية التي تنفر على نحوٍ متزايد من الولايات المتحدة بسبب قضايا مثل غزة، والخلاف الأميركي الداخلي بشأن فلسطين ــ عواقبَ وخيمة على قوة ونفوذ أميركا في المنطقة.

في الواقع، سيؤثر ذلك سلبًا في قدرة واشنطن على تحديد أسس السلام ما بعد الكارثة. ومع ضعف الولايات المتحدة على العديد من المستويات، اقترحت إدارة بايدن العودة إلى صيغةٍ بشأن فلسطين لا يؤمن بها أحد، والتي يرفضها حليفها الإسرائيلي. وقد فعلت ذلك حتى مع استمرار واشنطن في معارضة الخطوات الرامية إلى إنهاء المذبحة في غزة، وبالتالي لم تعد تتمتّع بأيِّ مصداقية كوسيط.

بعبارةٍ أُخرى، لا يملكُ بايدن نهايةً سياسية واقعية للحرب، ولا يحظى بدعمٍ إقليمي كبير لأيِّ شيءٍ يقترحه، كما إنَّ الناخبين مُنقَسمون بشدّة في الداخل، مع انقلاب العديد من المؤيدين، حتى في حزبه الديموقراطي، ضده.

وبينما تصبحُ فلسطين قضيةً أُخرى مُثيرةً للخلاف داخل الولايات المتحدة، وبينما تدفع سياسات واشنطن حلفاءها العرب إلى أخذ مخاوف شعوبهم بشأن الأميركيين على محمل الجد، ستجد الإدارات الأميركية أنه من الصعب للغاية تجنيد دول المنطقة، أو حتى الدول الغربية التي لديها مصالح في المنطقة، في إطارِ جهودها لدعم أجنداتها السياسية العالمية.

ادَّعى المحافظون المؤيِّدون لإسرائيل في الولايات المتحدة لفترةٍ طويلة أنَّ القضية الفلسطينية ماتت. وقد أثبت يوم 7 تشرين الأول (أكتوبر) خطأهم. إنَّ فلسطين لا تُشغِلُ شعوبَ الشرق الأوسط فحسب، بل إنها تُستَخدَمُ من قِبَلِ خصومِ الولايات المتحدة لإضعاف النفوذ الأميركي الإقليمي. وفي الوقت نفسه، فإنَّ سياسات واشنطن المُثيرة للجدل تمنح القادة في المنطقة حريةً أكبر للمناورة في عالمٍ مُتعَدِّد الأقطاب بشكلٍ متزايد.

عندما تُصبِحُ كلُّ مناطق العالم أماكنَ مُحتَمَلة للمنافسة بين الولايات المتحدة والصين، فإنَّ الأخطاءَ التي ترتكبها أميركا في الشرق الأوسط سوف تؤثر في علاقاتِ القوة مع بكين، بل وحتى مع  روسيا، التي ستكسبُ من خلال عدم القيام بأيِّ شيءٍ على الإطلاق. ولكي لا تُفاجَأ الولايات المتحدة بالقضية الفلسطينية مرّةً أُخرى، يتعيَّن عليها بالتالي أن تُولي المزيد من الاهتمام لحَلِّ الصراع الذي أمضت عقدَين من الزمن في تجاهله ــ الإهمال الذي كان في واقع الأمر لصالح الجانب الأقوى.

وبدون ذلك، سيتعيّن على واشنطن أن تقبلَ وتتقبّلَ أنَّ موقعها في الشرق الأوسط محكومٌ عليه بالتآكل، حيث تُشَجِّعُ المجتمعات في العالم العربي قادتها على النأي بأنفسهم عن القوة العالمية التي لا تستجيبُ لما يهمّهم. ونظرًا إلى مزاجهم اليوم، فقد يكون هؤلاء القادة أكثر ميلًا للقبول بما تريده مجتمعاتهم عمّا كانوا عليه في السابق.

  • مايكل يونغ هو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي الشرق الأوسط، بيروت، وكاتب رأي في صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية. يُمكن متابعته عبر تويتر على:  @BeirutCalling
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى