الميليشيات التي ساعدت النظام في سوريا خلال الحرب قد تُسبّب له المتاعب في أيام السلم
بدأ النظام السوري، الذي يشعر بالتجرُّؤ بعد مكاسبه العسكرية، يُعيد تأكيد سلطته على الميليشيات، بغية استعادة إحتكار الدولة لاستخدام القوة، ولكن هل تنجح هذه المحاولة في إنهاء حالة التعدد الميليشاوي والإنحرافات المصاحبة لها، أم تتكوّن مراكز قوى جديدة في البلاد.
بقلم خضر خضّور*
فيما تُلقي الحرب السورية أوزارها، يتركّز النقاش اليوم، في جزء كبير منه، حول السبيل لتسريح القوات شبه العسكرية التي إنتشرت في البلاد خلال النزاع المستمر منذ سبعة أعوام، في إطار عملية غالباً ما يُشار إليها بـ”نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج”.
ومن أجل أن يكون مجهود نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج فاعلاً بما يؤدّي إلى الحؤول دون استمرار النزاع، يجب أن يستند إلى إدراكٍ جيد للحدود القابلة للإختراق التي تفصل بين القوات النظامية وغير النظامية في سوريا. ونظراً إلى الطريقة التي بدأ بها النظام السوري دمج الميليشيات في قواته النظامية، من غير المرجّح أن يكون للأمم المتحدة أو دول أخرى رأيٌ وازِن، أو أي رأي على الإطلاق، في تنفيذ عملية نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج وفقاً لشروطها الخاصة.
ظهرت الميليشيات في سوريا نتيجة استراتيجية البقاء التي ينتهجها النظام، والتي ذهبت أبعد من إلحاق الهزيمة العسكرية بالمعارضة لتشتمل أيضاً على إنشاء شبكة من الأشخاص التابعين للنظام من أجل تعطيل الخصوم الداخليين، والتعويض عن الشوائب لدى الدولة السورية والجيش السوري، ومنع انهيار النظام. في مرحلة ما بعد النزاع، لن تتفكك هذه الميليشيات بسهولة لأنها أصبحت جزءاً لا يتجزّأ من هيكلية السلطة، وستعمل بصورة مطردة تحت مظلة القوات النظامية.
على امتداد الحرب، إعتمد النظام وحلفاؤه الإيرانيون والروس بقوّة على إنشاء شبكات غير رسمية من الميليشيات المحلية والأجنبية لتعزيز مواقعهم في مختلف أنحاء البلاد. عموماً، كان أسلوب النظام في دمج هذه الميليشيات المحلية في هيكلياته الرسمية بدائياً جداً، ما أسفر عن هيكلية عسكرية هجينة حيث تداخلت القوات النظامية وغير النظامية في أحيان كثيرة. أُنشِئت قواتٌ محلية وتمت تعبئتها – سواءً من خلال الجهود التي بذلها مسؤولون عسكريون في النظام أو في معظم الأحيان من خلال المساعي التي قام بها أفراد محليون – ثم دُمِجت تدريجاً في الهيكليات النظامية. وازداد المشهد ضبابية بسبب وجود ميليشيات من لبنان والعراق.
يُقدّم التنظيمان الميليشياويان “درع القلمون” و”درع الساحل” مثالاً عن الأساليب التي ينتهجها النظام لبناء نموذج هجين على نطاق واسع. تأسّست هاتان المجموعتان في العامَين 2014 و2015، على التوالي، وأُخضِعتا إلى سلطة الحرس الجمهوري، علماً أن “درع الساحل” حصل في البداية على تمويل إيراني.
أما الحرس الجمهوري فيتمركز تقليدياً، منذ تأسيسه في سبعينات القرن العشرين، في دمشق ومهمته حماية النظام. لكن عندما اندلع النزاع بعد العام 2011، أُرسِلت وحدتان من الحرس الجمهوري إلى خارج العاصمة؛ الأولى إلى دير الزور شرق سوريا والثانية إلى حلب شمالاً، لمحاربة المجموعات المتمرّدة التي كانت تتقدّم ميدانياً في المنطقتَين. وقد نُشِرت عناصر “درع القلمون” و”درع الساحل” مع هاتَين الوحدتين في دير الزور، وفي نهاية المطاف تمّ دمجهم في “اللواء 104” التابع للحرس الجمهوري، والذي كان يتضمن أيضاً عناصر من القبائل المحلية التي كانت متحالفة مع النظام في دير الزور.
تجلّت ديناميكيات مماثلة في حلب بعد شهرٍ واحد من إلحاق قوات النظام الهزيمة بالمتمرّدين في كانون الأول (ديسمبر) 2016، ودَفْعها بعدد كبير من السكّان إلى مغادرة المدينة. في كانون الثاني (يناير) 2017، أنشأ النظام “الفرقة 30” التابعة للحرس الجمهوري التي انضوت في صفوفها جميع الميليشيات المحلية في المنطقة. وكانت المحصّلة أنه على الرغم من أن هذه المجموعات إستمرت في العمل بطريقة مستقلة إلى حد ما، إلا أنه جرى استيعابها في إطار مؤسسات الدولة الرسمية.
إذاً يُنفّذ النظام عمليةً لنزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج وفقاً لشروطه الخاصة، وهي فاقِدة للمعنى فعلياً لأن أعداداً كبيرة من المقاتلين سوف تستمر في حمل السلاح وتُواصل التعبئة، لكنها تبدو راهناً مجرد عملية شكلية ضمن إطار الدولة. ويُظهِر ما حصل مع قائدَين ميليشياويين محليين كيف تبلورت هذه العملية على الأرض، ويُسلّط الضوء على المحفّزات التي شجّعت الأشخاص إما على إلقاء أسلحتهم أو على السعي إلى الاندماج في الهيكليات الرسمية.
تتعلّق الحالة الأولى بموظّف شاب في الخدمة المدنية كان يعمل في مؤسسة كهربائية تابعة للبلدية في مدينة حمص. عندما بدأت الإنتفاضة السورية في العام 2011، إنضم الشخص المذكور – الذي كان عمره 32 عاماً آنذاك – إلى المجموعات المحلية المسلّحة التي كانت تُعرَف باللجان الشعبية، أو “الشبّيحة” وفقاً للتسمية التي أطلقها عليها منتقدوها. وقد جمع حوله نحو 30 رجلاً من الحي حيث يقطن والقرى المجاورة، فشكّل مجموعته الخاصة وأبرم إتفاقاً غير رسمي مع ضابط من القوات المسلحة التابعة للنظام كان يقاتل آنذاك في محيط حي الوعر. بموجب الاتفاق، وافقت المجموعة على إجلاء المقاتلين التابعين للمعارضة من مناطق محدّدة مقابل حصولها على الحق في ممارسة النهب هناك.
وفيما راح الرجل يُراكِم الخبرات، تمكّنَ تدريجاً من الدخول في إتفاق رسمي أكثر مع “حزب الله” اللبناني في العام 2014، حصل بموجبه كل واحد من المقاتلين في مجموعته على راتب شهري قدره نحو 40,000 ليرة سورية، فضلاً عن بزّات وبطاقات تعريف لمساعدتهم على عبور نقاط التفتيش، كما حصلوا على شاحنات “بيك آب” مجهّزة برشّاشات ثقيلة. وحصل الرجل نفسه على راتب شهري قدره 100,000 ليرة سورية، وعلى شاحنة خاصة به. واستمرّ هذا التدبير حتى العام 2015، وبحلول ذلك الوقت كان قائد المجموعة قد جمع مبلغاً كافياً من المال ففتح مطعماً وملحمة في مسقط رأسه، حيث يوظّف الآن بعضاً من المقاتلين السابقين في مجموعته.
لكن في حين أن هذا التدبير أفضى إلى نوع من التسريح بحكم الأمر الواقع، لم تجرِ الأمور دائماً على هذا النحو. مثالٌ على ذلك ما حدث مع شاب آخر كان يعمل نجّاراً في لبنان عندما اندلعت الإنتفاضة. فبعدما باتت ظروف العمل أشد صعوبة بالنسبة إلى السوريين في العام 2014، عاد الشاب إلى مسقط رأسه، مصياف، في محافظة حماه. وبحلول ذلك الوقت، كان ثلاثة من أشقّائه قد انضموا إلى الميليشيات، وكان أحدهم قائداً في تنظيم “صقور الصحراء” في تدمر. وقد انضم الشاب إلى التنظيم، ومكث في صفوفه طوال عام تقريباً، ثم عاد إلى مسقط رأسه حيث أسّس مجموعته الخاصة التي ضمّت نحو 70 رجلاً من قرى وبلدات في المنطقة. وفي نهاية المطاف، تمكّنت المجموعة من إبرام اتفاق مع “قوات النمر” الخاضعة لإمرة شعبة المخابرات الجوية، حصل الشاب المذكور بموجبه على راتب شهري قدره 75,000 ليرة سورية، وآليّة سيّارة، وأوراق ثبوتية، ورشاشات، وكمية من عشبة المتّة والتبغ. وقد تمركز في بلدة أبو الظهور في محافظة إدلب، وبعد فترة ستة أشهر حصل خلالها مع رجاله على وضع مؤقّت، دُمِجت مجموعته في تنظيم “قوات النمر”. وقد دُمِج عدد كبير من المجموعات الصغيرة والمحلية جداً من خلال آليات مماثلة، ما يجعل من الصعب للغاية تنفيذ عملية نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج.
سوف يؤدّي القادة شبه العسكريين الأبرز الذين ينشطون خلال النزاع، دوراً أساسياً بعد انتهائه. فعلى مر السنين، إكتسب هؤلاء القادة نفوذاً واسعاً، ما يعني أنه حتى لو أراد النظام تسريحهم، لن يتمكّن من القيام بذلك من دون أن يُقحم نفسه في موقعٍ هش. إذ لن يؤدّي تسريح الميليشيات إلى ظهور أعداء نافذين وحسب، إنما يمكن أن يتسبب أيضاً باندلاع نزاع بين الميليشيات وداخل صفوفها على غرار ما شهده العراق بعد العام 2003.
بدلاً من المجازفة بالوصول إلى مثل هذه النتيجة، يُفضِّل النظام الإستمرار في دمج هذه الميليشيات وهؤلاء القادة في هيكليات رسمية فيما يحاول الحفاظ على توازن المنظومة عبر تأليب مراكز النفوذ المختلفة بعضها على بعض. كما أن دمج الميليشيات في القوات النظامية يُتيح مجالاً أمام النظام لاستخدام شرعية الدولة من أجل السعي إلى إبقاء تلك الميليشيات تحت السيطرة. غالب الظن أن العملية التي يقودها النظام، وحيث تبقى أعداد كبيرة من المقاتلين مسلّحة ومعبّأة – مع أنها إسمياً تحت مظلة الدولة – سوف تستمر، نظراً إلى أن النظام هو على الأرجح الكيان الوحيد القادر على إدارة الفوضى التي تسبّب بها.
بيد أن مفهوم نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج يستند عموماً إلى فرضية أنه يمكن التمييز على نحو واضح بين القوات النظامية وغير النظامية، مع دمج القوات غير النظامية في القوات النظامية، أو تفكيكها ببساطة. كي تتكلّل عملية نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج في سوريا بالنجاح، لا بدّ من الإدراك بأن عدداً كبيراً من الميليشيات تحرّكَ ضمن الهيكليات نفسها المعتمدة في حالة القوات النظامية، ما أسفر عن ظهور منظومة عسكرية هجينة لا يمكن التمييز فيها بسهولة بين القوات النظامية وغير النظامية.
• خضر خضّور باحث غير مقيم في مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت. تُركّز أبحاثه على العلاقات المدنية -العسكرية والهويات المحليّة في المشرق العربي، مع تركيز خاص على سوريا.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.