دولةٌ فلسطينيّة “منزوعة السّلاح”… يا للهَول!

محمّد قوّاص*

تمتلك مصر تاريخيًا الوزنَ والنفوذَ والمَوقِعَ الجيوستراتيجي للتأثير في مستقبل القضية الفلسطينية. وعلى الرُغمِ من تبايُناتٍ في خياراتِ القاهرة مع الدائرتَين الفلسطينية والعربية، خصوصًا منذ اتفاقات كامب دايفيد لعام 1978، ففقد بقيت مصر مُتَقَدِّمة في علاقاتها مع كلِّ أطرافِ الصراع، بما يجعلها الأكثر وجاهةً وتأهّلًا لقيادةِ جهدٍ جدّيٍّ للخروج من الحرب في غزّة.

لم تكن مصادفة أن يَخرُجَ الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في 24 تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري باقتراحِ دولةٍ فلسطينية منزوعةِ السلاح. يُكرّرُ في اقتراحه ما حملته المبادرة العربية للسلام في العام 2002 لجهةِ إنشاءِ دولةٍ فلسطينية على حدود 4 حزيران (يونيو) 1967 وعاصمتها القدس الشرقية من ضمنِ مُعادلةِ “الأرضِ مُقابل السلام”. لكنَّ الاقتراحَ يُضيفُ سمةً لهذه الدولة العتيدة بحيث تكون “منزوعة السلاح”.

ورُغمَ ما أثارته هذه “الإضافة” من لَغطٍ وأسئلةٍ واهتمام، فهي لا تتناقض مع وثائق الجامعة العربية ومنظمة التحرير الفلسطينية لجهة إقامة الدولة، ناهيك بأنَّ الطابعَ المُسلّح للدولة العتيدة لم يكن يومًا شرطًا يضعه أيُّ طرفٍ فلسطيني لقيام هذه الدولة، حتى أنَّ موقفًا لافتًا للرئيس الفلسطيني محمود عباس كان واضحًا في هذا الصدد.

فأمامَ مجموعةٍ من الأكاديميين الإسرائيليين زارته في رام الله، قال عباس في 17 آب (أغسطس) 2018: “أنا أدعمُ دولةً في حدود 1967 من دون جيش. أُريدُ قوات شرطة غير مُسَلَّحة مع هراوات وليس مسدسات”. وأضاف: “بدلًا من الطائرات الحربية والدبابات، أفضّل بناء مدارس ومستشفيات وتخصيص الأموال والموارد لمؤسّساتٍ اجتماعية”.

وتأتي تصريحات السيسي في حضرة الاتحاد الأوروبي مُمَثَّلًا بوجود رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز ورئيس الوزراء البلجيكي ألكسندر دي كرو. ويلعب البلدان الأوروبيان، إضافةً إلى إيرلندا، دورًا مُعانِدًا داخل أوروبا بالمطالبة بوقف الحرب في غزّة والذهاب إلى مفاوضاتٍ لحَلٍّ سياسي ينتهي بقيامِ دولةٍ فلسطينية وجب الاعتراف بها منذ الآن داخل منظمة الأمم المتحدة. والأرجح أنَّ الرئيس المصري أهدى ضَيفَيه موقفًا يدعَمُ تميّزهما داخل أوروبا.

والواضحُ أنَّ طَرحَ السيسي جاء في لحظةٍ تقاطعت داخلها في القاهرة خطوطُ التواصل مع الولايات المتحدة وإسرائيل كما مع السلطة الفلسطينية وحركة “حماس”، إضافةً إلى ما نتج من تقاطرِ المسؤولين الدوليين نحو مصر منذ اليوم التالي للحظة “طوفان الأقصى” في 7 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي.

وفيما انشَغَلَ مَن يُريدُ أن يَنشَغِلَ بالسّمة المنزوعة السلاح للدولة، فإنَّ الهدفَ الحقيقي والأصلي والمُلِح لموقف الرئيس المصري هو قيامُ دولةٍ فلسطينية. وتأتي “إضافات” السيسي لتُلاقي همّةً نادرة تُعبّرُ عنها الإدارة الأميركية بالإقرار بأنَّ لا حلّ في غزّة إلّا (وفق ما أعلنه وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في 8 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري في اجتماع وزراء دول مجموعة الدول الصناعية السبع في طوكيو) ب”توحيد غزّة مع الضفة الغربية تحت حكم السلطة الفلسطينية حال انتهاء الحرب”.

وإذا ما وضع بلينكن رؤيةً للأرضِ وإدارتها، فإنّه جالَ على العواصمِ المَعنية في المنطقة مُبشّرًا بضرورةِ الذهاب نحو الحلّ السياسي الشامل الذي ينتهي إلى تحقيقِ “حلِّ الدولتَين”. وقد بات هذا المسعى استراتيجيًا يكاد يكون اكتشافًا للرئيس الأميركي جو بايدن الذي ما برحَ يُردّدُ في كلِّ إطلالةٍ ومُناسبة بأنَّ “دولتَين لشعبَين هو الحلّ للسلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين”.

يلتقطُ السيسي هذه اللحظة النادرة من دونِ إيمانٍ بجدّيتها أو ضمان ديمومتها. يعرفُ أنَّ الديبلوماسية الأميركية في زمنِ الحَربِ تُطلِقُ بالوناتَ اختبارٍ قد تظلُّ مجرّد بالونات. لكنَّ الرئيس المصري يرفدُ اللحظة الأميركية (بحضورٍ أوروبي) بسمةٍ للدولة الفلسطينية العتيدة تُحسِّنُ من شروطِ تسويقِ التسوية من قبل واشنطن وحلفائها. وإذا ما تَخرُجُ أصواتٌ ترتعشُ من فكرة أن تكون الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح، فإنَّ إسرائيل ترتعش تاريخيًا من فكرة الدولة نفسها التي توفّر للفلسطينيين كيانًا وهوية وسردية تعتبرها العقائد السياسية والأمنية الصهيونية خطرًا وجوديًا على فكرة إسرائيل.

استخدَمَ الفلسطينيون كلَّ أدواتِ المقاومة بما فيها السلاح للحصول على حقّ إنشاء دولتهم، وقبلوا أن تقومَ على جُزءٍ من مساحةِ فلسطين التاريخية. وإذا ما ارتَؤوا في اتفاق أوسلو في العام 1993 إنشاءَ سلطةٍ وطنية في الضفة الغربية وقطاع غزة، فإنهم قبلوا أن تكون منزوعة السلاح، أي من دون جيش بالمعنى “الدولتي” المُتعارَف عليه.

وحتى حين تقدّمت المفاوضات نحو اتفاقاتٍ أُخرى في العام 1995 في القاهرة وطابا، وفي العام 1997 في الخليل، وفي العام 1998 في واي ريفر، وفي العام 1999 في شرم الشيخ، انتهاءً بفشل مفاوضات كامب دايفيد في العام 2000، فإنَّ كلَّ النصوص لم تتحدّث عن احتمالاتِ قيامِ كيانٍ فلسطيني مُسَلّح.

بدا أنَّ الرئيسَ المصري مُتَيَقِّنٌ من قبولِ البيئتَين العربية والفلسطينية لفكرة قيام دولة فلسطينية منزوعة السلاح. ولا شكَّ في أنَّ السيسي ينهلُ هذا اليقين من مُعطَياتٍ دقيقة تملكها القاهرة بشأن المزاج العربي والإسلامي الذي عبّرت عنه قمّة الرياض في 11  تشرين الثاني (نوفمبر)، كما بشأنِ المَزاجِ الفلسطيني الشعبي والفصائلي والرسمي. ولأنَّ اقتراحَ أن تكون الدولةُ مَنزوعةَ السلاح يندرجُ في إطارِ الضمانات الأمنية لإسرائيل، فإنه أرفَقَ هذه الضمانات بإمكانِ وجود قوات أممية أو دولية أو من ال”ناتو” أو عربية-إسلامية تكون ساهرة على أمن الفلسطينيين كما على الأمن الإسرائيلي. ولا تبتعد ضمانات الرئيس عمّا كان الرئيس الفلسطيني يُردّده دائمًا في توجّهه للمجتمع الدولي بعبارة “إحمونا”.

والفكرة ليست غريبة حتى عن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو الذي كان أكد في تشرين الثاني (نوفمبر) 2009، أنه سيقبل بدولةٍ فلسطينية “منزوعة السلاح”، ما دامت لا تمتلك قوة عسكرية، وتعترف بإسرائيل كدولةٍ قومية للشعب اليهودي. لكن المتحدّث باسم الخارجية الإسرائيلية “ليور حياة”، رفض اقتراح السيسي مُعتَبِرًا أنَّ موقفَ نتنياهو يعود إلى 14 عامًا، مُضيفًا: “لقد تغيّرَ الكثير من الأمور منذ ذلك الحين”.

مَن يُدافِعُ عن موقفِ الرئيس المصري يُذَكِّرُ بما وصلت إليه اليابان وألمانيا –اللتان فُرِضَ عليهما أن تكونا دولتَين منزوعتَي السلاح– من ازدهارٍ وثراء وحتى من قوة عسكرية هذه الأيام. يرمي السيسي دينامية داخل مياهٍ راكدة في شأنِ الحلّ. يُعبّرُ عن عدم ثقته بجهودِ “إحياء المسار السياسي” مُطالِبًا بالذهاب مباشرة إلى إقامة دولة فلسطينية وفق كل الشروط التي تُسَهّلُ قيامها وتزيل أي شكوك أو هواجس مُعرقِلة لها. يضيفُ الرئيس المصري سيناريو آخر على كل السيناريوات التي تتدافَعُ وتتطايَرُ لاستشرافِ اليومِ التالي بعد الحرب في غزة. وإذا ما أطلقت القاهرة مُبادرتها فإن سياقًا دوليًّا وإقليميًّا وفلسطينيًّا وإسرائيليًّا وُجِبَ توفّرة بما يتطلّب تحوّلات إجبارية يصعبُ استنتاجها في بيئةِ العبث والجنون التي تضربُ غزّة.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر (X) على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى