العراقي الغامِض

قراءةٌ مُتأخِّرة في عَقلِ صدام حسين

خير الله طلفاح: ربّى صدام حسين وزوّجه ابنته ساجدة، لكنه لم يكن راضيًا عليه في الحُكم!

(2)

خُرافاتُ مدرَسة طلفاح!

 

سليمان الفرزلي*

أدرَكَهُ اليُتمُ باكرًا، ماتَ أبوه عنه، وما برح صدّام حسين طفلًا، تزوّجت أمه الأرملة مرّةً ثانية، فكفله واحتضنه خاله خير الله طلفاح، فتربّى الصبيُّ في بيته مع أولاده.

وخير الله طلفاح، لِمَن لا يعرف، كانت لهُ هَيبَةٌ وسطوةٌ في عشيرته. زيَّنَ له اعتداده المُفرِط والمُغالي بنفسه، أنه مُفكِّرٌ حصيفٌ، وصاحبُ رأيٍ سديد، ونظرٍ بعيد، وحُكمٍ صائب، وسياسيٌّ يُتَحامى دهاؤه، عرَّافًا بطبائع الناس وغرائزهم.

وفي الحقيقة، كان خير الله طلفاح طوى دماغه على العصبيّةِ العشائرية، وعلى فَهْمٍ بدائي للدِينِ وفقهه. وظنَّ أنَّهُ فُتِحَ له في اللغة العربية ما لم يُفتَح لسواه، فراحَ يُصدِرُ الكُتُب، الواحد بعد الآخر، ويفرضها خوَّةً على العراقيين… وقد أهداني منها أربعة، لمّا قابلته، وهي: “كنتم خير أمة أخرجت للناس: عباقرة من العرب “؛ “المُلحِدون في القرآن”؛ “كيف السبيل الى الله”؛ وأكثر كتبه غرابةً كتابٌ يدخل في باب الخيال الخُرافي: “ثلاثة ما كان يجب أن يخلقها الله: الذباب والإيرانيون واليهود”!

لم يتلقَّ صدّام حسين في بدايةِ تفتُّحِهِ دراسةً مُنتَظِمة. إنَّما معارف جاءت من بيئة خاله، التي تشكّلت في جانبها الثقافي من خليطٍ غير متوازٍ من النزعة القومية العفوية، مُطَعَّمة بنوعٍ من العصبية الإسلامية، والطموح السلطوي، وبشيءٍ من الخيالِ الخُرافي، على نهجِ تفكيرِ “الخال العلّاَمة”.

تلك، كانت مدرسة صدام حسين الأولى التي بدأت تُكوِّنُ شخصيته، قبل دخوله في الأجواء الثقافية، والفكرية، والسياسية لحزب “البعث العربي الاشتراكي”، وهي مدرسةٌ غيرُ متوازيةٍ مع النزعة العشائرية، السلطوية، وعصبيّاَتها، وسطحيتها الثقافية الوحيدة الجانب.

لهذا يُمكِنُ القول بأنَّ صدّام حسين لم يتكوَّن كشخصيةٍ واحدة، بل كخليطٍ من الشخصيّات، حاولَ بعضها أن يزيحَ بعضها الآخر في خلالِ مسيرتها المعقَّدة. ومن ذلك طَردُهُ لبيئةِ خاله وشخصه من حياته تاليًا.

فاجأني، عبد الجليل حمود، وكان صديقًا صفيًّا، بأن دعاني لمرافقته لزيارة خير الله طلفاح، وأصرَّ أن يُقدّمني إلى الرجل.

كان عبد الجليل حمود، أحد قادة عشائر طَيّ في مدينة الرقّة السورية على نهر الفرات، (“أبو فرات” لقبه المحبب، نسبةً إلى ابنته البكر فرات، وتعلّقه ببلاده جعله يُطلِقُ على بناته الثلاث أسماء أنهار بيئته العشائرية، “فرات”، و”دجلة “، و”ديالى”)، وفي هاتيك الأيام، كان لاجئًا في بغداد.

في الموعدِ المَضروبِ بيننا، (أوائل نيسان /أبريل سنة 1981)، صحبته إلى منزل خير الله طلفاح. وبعد السلام والتعارف والمجاملات، جلسنا الى الكلام تحت أعمدةِ ملحق بالبيت لم يكتمل بناؤه، أي أنه كان “ما زال على العظم” حسب التعبير اللبناني.

افتتحَ خير الله طلفاح الحديث بموضوعٍ ديني، تناولَ فيه اليهود، وما جاء عنهم في القرآن، لم أستطع أن أتبيَّن أسبابه ومراميه، ثم راحَ يستزيد في الكلام عن النظام العراقي، يصمتُ برهات كأنه يخلط الكلام في ذهنه، ويعود إلى تناولِ مواضيع أخرى مُشتَّتة…

كنتُ طوال الوقت مُستَمِعًا، ومتأمّلًا، وجانبتُ الدخولَ معه في أيِّ نقاش، أو حتى بأيِّ سؤال… (ذكرتُ هذه المقابلة الغريبة في “علامات الدرب”، سيرتي الذاتية).

ما لفتني، خلال تلك الجلسة، غرابة حديثه السياسي المُتعارِض مع نظام صدام حسين، ابن شقيقته وصهره زوج ابنته ساجدة، وأنه لم يوفِّر رأسَ النظام بنقده. فأدركتُ عدم وعيه الزمن بكلِّ لحظاته، وعدم قدرته على استيعابِ الأمور بكل دقائقها، إذ قال:

“الشباب في هذه الأيام لا يسمعون منّي ولا يردُّون عليَّ. في السابق كان الرئيس أحمد حسن البكر يسمع ما أقول على الأقل”!

قصدَ بمَن سمَّاهم “الشباب”، صهره الرئيس صدام حسين، وابنه عدنان خير الله، وزير الدفاع وقتذاك.

قبل أن يسترسلَ في الحديث عن الموضوع، نهضَ من كُرسيه وتوجّهَ الى داخل المنزل وأحضر أربعة كتب من تأليفه وقدّمها هديَّة لي، ثم أكمل حديثه من حيث توقّف فقال:

“كم لَفَتُّ نظر صدام الى أنَّ غانم عبد الجليل يتآمر عليه، وهو يقول لي إنه لو كان عندي عشرة من أمثاله لنمتُ قرير العين، حتى تبيّنَ له بالدليل الملموس أنه كان في طليعة المتآمرين”.

لا أدري لماذا سمَّى غانم عبد الجليل من دون سائر القياديين الحزبيين الذين وقع عليهم حكم الإعدام في “قاعة الخلد” من غيرِ أيِّ محاكمة؟!

المعروف أنَّ الاجتماع الذي دعا إليه صدام حسين القيادات البعثية العراقية في “قاعة الخلد”، (يوم 22 تموز/يوليو 1979، بعد أقل من أسبوع على تسلُّمه مقاليد رئاسة الجمهورية وقيادة “حزب البعث” العراقي من الرئيس البكر)، جرى تصويره بالفيديو ولقي انتشارًا واسعًا، حيث ألزم الرئيس العراقي حزبيين موالين له بقتل رفاقهم المغضوب عليهم، بما يُشبه “ليلة السكاكين الطويلة” في ألمانيا الهتلرية، أو تصفية سيرغي كيروف وجماعته في الاتحاد السوفياتي على يد ستالين في منتصف ثلاثينيات القرن العشرين.

لزمتُ الصمتَ ولم أشأ أن أدخُلَ في الموضوع، مع أنه كانت لديَّ قراءةٌ لتلك الواقعة، ليست لها علاقة بما شاعَ في حينه بأنها “مؤامرة”. فضَّلتُ أن يأخُذَ خير الله طلفاح مداه في ذلك الاتجاه، لأنني كُنتُ أعرفُ غانم عبد الجليل منذ العام 1969، فقد عَرَّفَني عليه طارق عزيز، يوم كان رئيسًا لتحرير جريد “الثورة”، على عشاءٍ في حديقة “نادي الصيد” في بغداد. كان غانم عبد الجليل، وقتذاك لمّا يزل موظّفًا عاديًا في “البنك المركزي العراقي”، قبل أن اختاره صدام لإدارة مكتبه، ليتسلّم بعدها مناصب حكومية رفيعة.

في السنة التالية، أي في العام 1970، أُسنَدَ إليه مركز محافظ كركوك في شمال العراق، وقد زرتهُ في مكتبه هناك في طريقي لمقابلة الزعيم الكردي المُلّا مصطفى البارزاني على أثِر توقيعِ اتفاقية الحُكمِ الذاتي للأكراد مع الحكومة العراقية، (تناولتُ بالتفصيل تلك الرحلة في “علامات الدرب”، الفصل الخامس من القسم الثالث، الصفحات 311 – 334، بعنوان “في عرين كاكا مصطفى”). ثم شاءت المصادفات في العام 1975 أن التقيته في الطائرة من بيروت الى بغداد، وكان وقتئذٍ يُشغل منصب وزير التعليم العالي.

أمّا قراءتي الخاصة لمجزرة “قاعة الخلد” الحزبية، فإنني سوف أعودُ إليها في سياقٍ آخر تاليًا. لكن هنا أسرد ما قاله خير الله طلفاح حانقًا على “الشباب” ليس فقط لأنهم تجاهلوه، ولم تعد كلمته مسموعة لديهم، بل لأنَّ له تصوُّرًا للنظام العراقي بعيدًا كلَّ البُعد من النظام الجمهوري، ومن التركيب الحزبي، الحقيقي منه والشكلي. فقد أعلن خير الله طلفاح أمامي، وأمام الصديق الراحل عبد الجليل حمود، أنه يريد للعراق نظامًا كالنظام السعودي يقوم على ملكٍ، وأمراء، وحواشي، ورعايا…  تسمع وتطيع!

عندما سمعتُ هذا الكلام في حينه، اعتبرته من قبيل “الهراء”، أو “الهذيان”، أو بداية “خرف”. لم آخذه على محمل الجدّ. بل قلتُ في نفسي: “حسنًا فَعَلَ صدّام بأن خرج من مدرسة خاله خير الله طلفاح، قبل أن يتخرَّجَ منها”!

لكنَّ الأمورَ في مُقبِلِ السنين تفتَّقَت عن حوادث خطيرة، هبَّت على النظام العراقي في أوج احتدام الحرب العراقية–الإيرانية (1980 – 1988)، حيث بدأت المناخات الدولية تتغيَّرُ مؤثّرةً على مسارِ تلك الحرب، كان من أبرز مظاهرها الاتصالات السرّية الأميركية مع إيران، في ما عُرف حينذاك بقضية “إيران-كونترا”، وخلاصتها موافقة واشنطن على بيعِ سلاحٍ أميركي من إسرائيل إلى إيران لتمويل عملياتٍ عسكرية ضد حركة “ساندينيستا” الشيوعية في نيكاراغوا التي أطاحت، في مطلع ثمانينيات القرن العشرين،  نظام أناستاسيو سوموزا اليميني الموالي للولايات المتحدة.

ويبدو أنه مع تغيُّرِ اتجاهِ الرياح الدولية، دارَ همسٌ في الكواليس حول البحث عن بديل لصدام حسين في العراق، مما ألهبَ صراعاتٍ صامتة داخل الدائرة الضيًّقة في عائلة الرئيس العراقي، سرعان ما بدأت ملامحها تظهر الى العلن على نحوٍ مُفجِع.

كلمةٌ واحدة قالها ضابطٌ كبير من تلك الدائرة الضيَّقة في مجلس عشائري، مفادها:

“فليذهب واحدٌ منَّا ولا نذهب جميعنا!”.

كانت هذه الكلمة كافية ليقوم صدام حسين بتصفية العشرات من أقاربه الأقربين، وبينهم أنسباء له من عائلة خير الله طلفاح، الساعي إلى “عرشٍ سعودي” للعراق.

لم تكن عنده “ذقنٌ ممشَّطة” حيث يتعلق الأمر بالاقتراب من السلطة!

(الحلقة الثالثة يوم الأربعاء المقبل: “الأصل والظل”).

  • سليمان الفرزلي هو كاتبٌ وصحافي لبناني ترأّس تحرير صحف عدة في بيروت، منها “الأحرار”، و”الكفاح”، و”بيروت”، و”عالم النفط”، و”الصياد”، وعمل في عدد من الصحف الصادرة في لندن وباريس، منها “الدستور”، و”الحوادث” قبل أن يصدر مطبوعته الخاصة “الميزان” في تسعينيات القرن الماضي. وله أيضًا مؤلّفات أبرزها كتاب سيرته “علامات الدرب” الصادر مطلع العام 2013 عن “اللبنانيون المتحدون للصحافة والنشر” في لندن، و”حروب الناصرية والبعث” الصادر مطلع العام 2016 عن دار “أنطوان هاشيت (نوفل)” في بيروت. وهذه المطبوعات يمكن الاطلاع عليها كاملة على موقعه الإلكتروني: sferzli.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى