إيطاليا تَلعَبُ بالنَّارِ في ليبيا

كابي طبراني*

كانت الاجتماعاتُ التي عقدتها رئيسة الوزراء الإيطالية جيورجيا ميلوني مع رئيس الوزراء الليبي المؤقت عبد الحميد الدبيبة في طرابلس في السابع من أيار (مايو) تحمُلُ كل زخارف الزيارة الروتينية. بَعدَ مُناقشاتٍ ودّية، وقّعت ميلوني والدبيبة إتفاقاتٍ تُغطّي التبادُلات الجامعية ومشاريع الطاقة المُتجدّدة والدوريات البحرية المُشتَرَكة وعشراتٍ من مُبادراتِ التنسيق الأخرى. ومع ذلك، فإنَّ اجتماعَ ميلوني بعد ساعاتٍ قليلة في بنغازي مع الجنرال خليفة حفتر، القائد العسكري الذي يُهَيمِنُ على حكومةٍ انفصالية في شرق ليبيا، سَلّطَ الضوءَ على المخاطرِ الكامنة تحت سطح تعامل إيطاليا الهادئ على ما يبدو مع ليبيا.

لأكثرِ من عَقدٍ من الزمن، وفي التعامُلِ مع المشهدِ السياسي المُنقَسِم في ليبيا، كافحت روما لحمايةِ ما تعتبرهُ مَصالحَ وجودِيّة حاسمة في الجماهيرية السابقة. وفي جهودها للتأثير على الفصائل المُتناحِرة في بنغازي وطرابلس، انجَذَبَت الحكومات الإيطالية المُتعاقِبة بعُمقٍ إلى السياسة الليبية بطُرُقٍ لم يَتَوَقَّعها سوى القليل خلالَ الحربِ الأهلية وتدخُّلِ حلفِ شمال الأطلسي (الناتو) الذي أدّى إلى سقوط وقتل معمر القذافي في العام 2011. لكنَّ الفُرَصَ الجيوسياسية التي وَلّدتها تجزئةُ الدولة التي تمتلكُ احتياطاتٍ ضخمة من النفط والغاز أتاحت لروسيا وتركيا والإمارات العربية المتحدة وقطر توسيع نفوذها في ليبيا. وقد أدّى ذلك إلى تفاقُمِ المعضلات الاستراتيجية التي يُواجِهُها صُنّاعُ السياسات في روما خوفًا من تأثيرِ مثل هذه المنافسة على الطاقة الإيطالية وأمن الحدود.

إنَّ جهودَ روما للتغلّبِ على تعقيداتِ المَشهَدِ الاجتماعي والسياسي في ليبيا كانت تتعثّرُ في كثيرٍ من الأحيان بسببِ الموروثات الإستعمارية السامة. على الرُغمِ من أن تاريخ جنوب إيطاليا وشمال ليبيا كانَ مُتشابكًا لآلاف السنين من خلال الحرب والتبادُل التجاري والثقافي، إلّا أنَّ العلاقة بين المُجتمعَين قد طغت عليها الآن إلى حدٍّ كبير وَحشيةُ الإبادة الجماعية التي ارتكبتها حملة بينيتو موسوليني لفَرضِ نظامٍ استعماري عنصري على الليبيين في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين. إنَّ القتلَ الجماعي والتجويع لمئات الآلاف من الليبيين في ظلِّ نظام موسوليني الفاشي لم يتم تناولهُ بشكلٍ منهجي في النقاش السياسي الإيطالي الأوسع. ولكن على الرُغم من التنافُسِ بين الفصائل اليوم في ليبيا، فإنَّ أعمالَ الإبادة الجماعية التي ارتكبتها إيطاليا الفاشية هناك تظلُّ راسخةً في الذاكرة التاريخية لكلِّ مجتمعٍ ليبي.

بعدَ الإطاحة بالنظام الملكي الليبي في العام 1969، استخدَمَ القذافي هذا الغضب المستمر تجاه الإستعمار الإيطالي لدَعمِ نظامِهِ من خلالِ طردِ 20 ألف مستوطن إيطالي. ومع ذلك، فقد سمح أيضًا لشركة “إيني” –شركة الطاقة الإيطالية العملاقة– بتوسيع عملياتها في مجال النفط والغاز في ليبيا من خلال مشاريع لا تزال ذات أهمية أساسية لأمن الطاقة الإيطالي. ولكن لمنع روما من استعادةِ الكثير من النفوذ في الجماهيرية السابقة من خلال هذه العلاقات التجارية، واصل القذافي التعاون العسكري مع الاتحاد السوفياتي، وقَدَّمَ الدَعمَ للجماعاتِ الإرهابية اليسارية المُتَطرّفة، وسمَحَ بشكلٍ دوري بتهريبِ البشر عبر البحر الأبيض المتوسط بطُرُقٍ مارست الضغط على حكوماتِ إيطاليا المُتعاقبة حتى انهيار نظامه في العام 2011.

وقد مَكَّنَت هذه العلاقات الطويلة الأمد الديبلوماسيين وعملاء المخابرات الإيطاليين وكذلك مديري “إيني” من تنميةِ وخلق شركاءٍ محلّيين مؤثّرين. لكنَّ الإرثَ الوحشي للإستعمار الذي يُلقي بظلاله على مثل هذه العلاقات غالبًا ما يتمُّ استغلاله من قبل القوى المتنافسة التي تأمَلُ في توسيعِ نفوذها في المنطقة على حساب روما، سواء كان ذلك من تركيا وقطر اللتين تدعمان عسكريًا وماليًا حكومة الدبيبة في طرابلس أو وجود أكثر من 2,000 مرتزق روسي (من مجموعة فاغنر) مدعومين بمساعداتٍ مالية من دولة الإمارات لتعزيزِ وَضعِ حفتر في الشرق.

على الرُغمِ من أنَّ اضطراباتَ أزمةِ منطقة اليورو قد قَيَّدَت في البداية استجابةَ روما للأحداث التي تلت سقوط القذافي، إلّا أنَّ الصفقات التي تمَّ التوصلُ إليها في العام 2017 بين وزير الداخلية الإيطالي آنذاك ماركو مينيتي وعشرات من وسطاء السلطة الإقليميين في غرب وجنوب ليبيا جعلت الدولة الإيطالية في شراكةٍ طويلة الأمد مع الفصائل التي تدعم الآن الدبيبة. ونتيجةً لذلك، عندما أمرَ حفتر قوةً تضم 1,400 من المرتزقة الروس بمهاجمة طرابلس في العام 2019، وَجَدَ الإيطاليون أنفسهم في شراكة ضمنية مع تركيا لضمان قدرة حلفائهم المحلّيين على الصمود والنجاة من الهجوم.

وقد شَمَلَ وجودُ المرتزقة الروس من “مجموعة فاغنر” في ليبيا بالفعل طائراتٍ مقاتلة ودبابات ومُسَيَّرات استخدمها حفتر في هجومه على طرابلس في صيف وخريف العام 2019. والآن هناكَ دلائل تُشيرُ إلى أنَّ هذا الوجود تَوَسّعَ بشكلٍ أكبر خلال الأشهرِ القليلة الماضية ليُضيف أكثر من 1,800 مقاتل، على الرُغمِ من الضغوط التي يواجهها الجيش الروسي في غزوه لأوكرانيا. منَ المُرَجَّحِ أن يؤدّي الوجود العسكري التركي في مُدنٍ غرب ليبيا إلى جانبِ المساعدة السرّية التي تُقدّمها روما إلى الدبيبة في الوقتِ الحالي إلى ردعِ أيِّ محاولةٍ أُخرى للاستيلاء على طرابلس. لكن حفتر استخدمَ الدَعمَ الروسي والإماراتي لتوسيعِ نطاقِ وصولهِ إلى مناطق في منطقة فزّان الجنوبية، حيث توجد احتياطات النفط والغاز الحيوية لوضع “إيني” في ليبيا.

بالنسبةِ إلى روسيا ودولة الإمارات، أصبحَ الوجودُ المُوَسَّع في ليبيا حاسمًا لتحقيقِ أهدافٍ استراتيجية أوسع في منطقتَي البحر الأبيض المتوسط والساحل، حتى لو كان الدعمُ التركي والإيطالي (والقطري) للفصائل في غَربِ ليبيا قد وَضَعَ مُدُنًا مثل طرابلس ومصراتة بعيدة المنال. لقد استخدمت موسكو شبكة قواعدها في ليبيا لتطويرِ الشبكات اللوجستية اللازمة للحفاظ على وجود المتعاقدين العسكريين الروس في مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى. هناكَ أيضًا دلائل على أنَّ الوصولَ إلى الموانئ في شرق ليبيا قد يُوَفّرُ فُرَصًا لمُصَدِّري النفط الروس، الذين تمنعهم عقوبات الاتحاد الأوروبي من الوصول إلى الأسواق الأوروبية، لتهريب النفط الخام المُكّرَّر إلى الاتحاد الأوروبي بشكلٍ غير مشروع.

مع تأجيلِ الانتخاباتِ الوطنية إلى أجلٍ غير مُسَمّى بهدفِ إعادةِ توحيد الإدارات المُتنافسة في بنغازي وطرابلس، فإنَّ هشاشةَ التوازُنِ السياسي الحالي في ليبيا يُمكِنُ أن تؤدّي بسرعةٍ إلى حربٍ أهليةٍ أُخرى. وأيُّ دورةٍ مُتَجَدِّدة من القتال يُمكنُ أن تؤدّي إلى مواجهاتٍ مباشرة بين القوّات التي تقودها تركيا وكذلك العملاء الإيطاليين الذين يساعدون حكومة طرابلس والمرتزقة الروس المتحالفين مع قوات حفتر شبه العسكرية. ومع إرساءِ أمنِ الحدودِ والطاقة الإيطاليين الآن في الصفقات مع الفصائل الليبية في قلب قاعدة سلطة الدبيبة، فمنَ المُرجّحِ أن تُحاولَ روما جَذبَ الاتحاد الأوروبي الأوسع إلى استجابةٍ أكثر قوة للصراع في ليبيا مما يتوقّعه العديد من المسؤولين في بروكسل حاليًا.

من خلالِ القيام بذلك، قد يكون لديها شريكٌ أكثر استعدادًا للإنخراط في العملية وهو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. نظرًا لتركيزه الحاسم ضد روسيا في الأشهر الأخيرة، فإنَّ أيَّ إشارةٍ إلى أنَّ موسكو قرّرت العمل مع حلفائها الليبيين لعرقلة وصول أوروبا إلى النفط والغاز الليبيين أو زيادة الاتجار بالبشر عبر البحر الأبيض المتوسط، من المرجح أن تؤدّي إلى ردِّ فعلٍ أكثر نشاطًا من باريس وروما وليس كالحذر الذي ظهر خلال الجولة السابقة من القتال في العام 2019. ونتيجةً لذلك، فإنَّ ما قد يبدأ كمشاجرةٍ صغيرة بين الميليشيات المحلية في منطقة فزّان يُمكنُ أن يتصاعدَ إلى مواجهةٍ أوسع بين روسيا وبعض أكبر الجيوش في حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي.

إنَّ الزيادة في المشاركة الديبلوماسية والنشاط التجاري لإيطاليا مع الإدارات في كلٍّ من طرابلس وبنغازي على مدى الأشهر الثمانية عشر الماضية تنبعُ من الإدراكِ بأنَّ المصالحَ الجيوسياسية التي تعتبرها إيطاليا ذات أهمية وجودية مُرتَبِطة بالمُنافساتِ بين الفصائل التي تُحدّدُ السياسة الليبية. ومن خلالِ هذه الدفعةِ المُنَسَّقةِ التي تشملُ المساعدات والتجارة والمساعدة الأمنية السرية، تأملُ حكومة ميلوني في تعزيزِ، بل وشراء إذا لزم الأمر، وَلاءِ وُسطاء السلطة الإقليميين الرئيسيين الذين يعتمد عليهم الدبيبة وحفتر. لكن من خلالِ القيام بذلك، أصبحت روما مُنخَرِطةً بعُمقٍ في الشؤون الليبية بطُرُقٍ تَجعَلُها تتصادَمُ باستمرارٍ مع عمليات النفوذ التي تُمارِسها موسكو في المنطقة.

لقد تَمَّ تصميمُ التواصُلِ الاستراتيجي لحكومة ميلوني مع الشركاء الليبيين لترسيخِ النفوذ الإيطالي عبر البحر الأبيض المتوسط والساحل مع تجنُّبِ التصعيدِ العسكري. لكن هذا التكثيف لجهود روما هو مؤشر إلى مدى أهمّية ليبيا في الفكر الاستراتيجي الإيطالي. ومن خلالِ التَوَسّعِ في المناطق الحدودية التي تسعى حكومة ميلوني جاهدة إلى إبقائها في مجال نفوذ الاتحاد الأوروبي، تُخاطِرُ موسكو بإساءةِ قراءةِ العداءِ العميقِ الذي تُبديهِ القيادةِ الإيطالية تجاه المُنافسين الذين يمارسون الضغوط على طول شواطئ البحر الأبيض المتوسط التي لا تزال روما تعتبرها جُزءًا من ” Mare Nostrum” أي “بحرنا”.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر تويتر على: @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى