كَيفَ وَجَدَت إسرائيل نفسها مُتَوَرِّطة في جبهاتٍ ثُلاثية الأبعاد كلّها من صُنعِها

أسامة الشريف*

حتى قبل اندلاع الهجوم الأخير على قطاع غزة المُحاصَر، عانت إسرائيل من هزيمة خطيرة في العلاقات العامة. صورةٌ شوّهت صورتها حول العالم، وربما لا يُمكن إصلاحها. إن اعتداءاتها المُتكرّرة على المُصلّين في المسجد الأقصى ومحاولتها تنفيذ عمليات إخلاءٍ قسري للسكان الفلسطينيين في حيِّ الشيخ جرّاح في القدس الشرقية المُحتلّة قد جاءت بنتائج عكسية حيث أن اللقطات الأوّلية لاقتحام المسجد الأقصى واستفزازاتها لسكان القدس الشرقية ملأت منصّات التواصل الاجتماعي.

ثم جاء القصف العشوائي وغير المُتناسب لقطاع غزة؛ الذي أسفر، كما هو مُتوَقَّع، عن خسائر فادحة في أرواح المدنيين بمَن فيهم النساء والأطفال. مرة أخرى، تم نشر لقطات غير مُحَرَّرة للاستهداف المُتعَمَّد للمنازل والمباني السكنية على وسائل التواصل الاجتماعي حتى في الوقت الذي حاولت وكالات الأنباء الغربية تجنّب نشرِ صور عن الخسائر البشرية.

أثار قصف غزة احتجاجات فلسطينية واسعة النطاق في الضفة الغربية، وكان ردّ إسرائيل غير مُتناسب كالمعتاد. وقُتل شبّانٌ فلسطينيون كانوا يحتجون على نقاط التفتيش الإسرائيلية بدمٍ باردٍ في الخليل ونابلس ورام الله وجنين وبلدات وقرى أخرى. لا يُمكن للرواية الرسمية الإسرائيلية أن تُبرّر القمع في الضفة الغربية. كان هذا جيلاً من فلسطينيي بعد انتفاضة 2000 الذين يحيون 54 عاماً تحت الاحتلال الإسرائيلي الوحشي.

وكان “الاحتلال” هو الكلمة الطنّانة في هذا التصعيد الأخير. تم تذكير العالم مرّة أخرى بأن الفلسطينيين كانوا تحت أطول احتلال استعماري في العصر الحديث. على وسائل التواصل الاجتماعي، إنتقد نشطاءٌ من جميع أنحاء العالم إسرائيل بسبب معاملتها المُروِّعة للفلسطينيين. وعندما حاول المُدافعون عن إسرائيل الردّ، بقذف الأكاذيب وأنصاف الحقائق، تم إسكاتهم من قبل المُدافعين، الذين كانت الغالبية العظمى منهم من اليهود المُعادين للصهيونية. كانت علامات التصنيف على تويتر مثل #IsraeliApartheid و #IsraeliTerrorism تُتابَع وتُؤيَّد بعشرات الآلاف. لا شك أن إسرائيل ستواجه صعوبة في تبييض ارتباطها بوصمات مثل التطهير العرقي والفصل العنصري.

ثم جاء ما هو غير مُتَوَقَّع: إنضمّ عرب إسرائيل إلى إخوانهم في الأراضي المُحتلّة للاحتجاج على هجوم الأقصى والحرب على غزة. إندلعت اشتباكاتٌ عنيفة بين العرب والمُتطرّفين اليهود، الذين غالباً ما كانت تحميهم الشرطة، في مدينة اللدّ المُختلطة، حيث هاجم مثيرو الشغب المحلات التجارية العربية، وأحرقوا السيارات، وراحوا في موجة قتل جماعي وهم يهتفون “الموت للعرب”. إمتدّ العنف إلى مدن أخرى بما فيها حيفا وعكا. وسط تحريض من قبل بنيامين نتنياهو وغيره من المُحرِّضين اليمينيين، تحطّمت صورة عقود من التعايش العربي-اليهودي في إسرائيل فجأةً، ولكن ليس قبل فضح سنواتٍ من التمييز ضد المواطنين العرب.

وجدت إسرائيل نفسها تُقاتل على ثلاث جبهات مختلفة؛ كلّها من صنعها وكلّها تهدف إلى خدمة المصالح السياسية لنتنياهو المُحاصَر، الذي قفز على الفرصة لإنقاذ حياته السياسية.

أثار الهجوم الإسرائيلي على غزة، وهو الرابع في غضون 13 عاماً، موجةً عالمية غير مسبوقة من التعاطف والتضامن مع الفلسطينيين. من تورنتو إلى طوكيو ومن نيويورك إلى برلين، نزل آلاف الأشخاص إلى الشوارع لإعلان دعمهم لقضية فلسطينية عادلة. شكّلت الاحتجاجات اتساع الفجوة بين الحكومات والمواطنين. في حين أن معظم الحكومات الغربية، بقيادة الولايات المتحدة، انحازت إلى إسرائيل ودعمت حقها في الدفاع عن النفس، تحوّل الرأي العام العالمي بغالبية ساحقة لصالح الفلسطينيين وسعيهم إلى العدالة والتحرّر.

والأهم من ذلك، أن المُشرّعين الديموقراطيين، بمَن فيهم نوابٌ وشيوخٌ يهود، في الكونغرس الأميركي اعتلوا المنبر وأعلنوا دعم الحقوق الفلسطينية وشجب الضربات الإسرائيلية على غزة. كانت هذه لحظة فاصلة في السياسة الأميركية. واحدة زعزعت ثقة إسرائيل في الاعتماد على دعمٍ أعمى من الكونغرس الأميركي.

مع تصاعد الضغط على إسرائيل وإدارة بايدن لإنهاء الهجوم على غزة، برزت بالفعل أسئلة حول الضرر طويل المدى لصورة إسرائيل في الخارج حول الجمهور الإسرائيلي المُنقسم. القضية المُلحّة الآن هي ماذا يحدث بعدما سكتت المدافع والصواريخ؟ إن جرائم الحرب الإسرائيلية في غزة مُوَثَّقة جيداً، وتحثّ هيئات حقوق الإنسان الدولية والإسرائيلية المحكمة الجنائية الدولية على بدء تحقيقاتها.

على الصعيد السياسي، سوف تتجدّد دعوات الولايات المتحدة والمجموعة الرباعية لإطلاق عملية سلامٍ جديدة على الرغم من أن إمكانية النجاح تبدو بعيدة مع ميل إسرائيل أكثر إلى اليمين المتطرف. الإنقسامات العميقة التي شوّهت النسيج الاجتماعي الإسرائيلي وانهيار مزاعم التعايش بين العرب واليهود سوف تتفاقم لبعض الوقت. من وجهة نظر النقاد الإسرائيليين، فإن التمزّق الأخير يمثل التحدّي الوجودي الأكثر أهمية لإسرائيل منذ تأسيسها.

في ظلّ حكم نتنياهو وحلفائه من اليمين المتطرف، ستستمر الاستفزازات في الأقصى، والسعي إلى تهجير سكان القدس، فضلاً عن التوسعات الاستيطانية غير الخاضعة للرقابة؛  مما سيؤجّج الغضب بين الفلسطينيين ورفع كلفة الاحتلال، وهو أمرٌ لم يحدث منذ انتفاضة العام 2000. في جميع الاحتمالات، لن تهدأ هذه الصحوة الشعبية الفلسطينية في أيِّ وقتٍ قريب. لقد فتحت إسرائيل صندوق “باندورا” أو مصدراً لمشاكل كبيرة وغير مُتَوقَّعة، وبينما ربما يكون نتنياهو قد أشعل سلسلة من الأزمات، في غزة والضفة الغربية وداخل إسرائيل نفسها، فإنه لن يكون قادراً على احتوائها. على الرغم من الخسائر البشرية الفادحة في الأسبوع الماضي، فقد انتصرت القضية الفلسطينية في معركة الرأي العام، وأصبح العالم يدرك أن السبب الجذري للصراع غير المُتكافئ هو الاحتلال الإسرائيلي.

  • أسامة الشريف هو صحافي ومٌعلّق سياسي مُقيم في عمّان، الأردن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @OsamaAlSharif3

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى