الشَّرقُ الأوسَط: “عَقيدَةُ بايدن”!

محمّد قوّاص*

في كانون الثاني (يناير) 2021 عَيَّنَ الرئيس الأميركي جو بايدن بريت ماكغورك مُنسّقًا لشؤون الشرق الأوسط وأفريقيا في مجلس الأمن القومي الأميركي. أثارَ الأمرُ رَيبَةَ تركيا بالنظر إلى تشدّدِ مواقف المبعوث الجديد تجاه سياسة أنقرة في الملف السوري خلال عمله في الإدارات السابقة ودعمه الأكراد وتأييده تسليحهم. لكنه منذ أيام فقط كان يتحدّثُ عن عمله الدؤوب مع سفير تركيا في واشنطن، حسن مراد ميركان، لتنسيق المساعدات الأميركية للمُتضرّرين من الزلزال الأخير.

لم يغب ماكغورك عن غُرَفِ القرار في واشنطن في ظلِّ إدارة الجمهوريين أو الديموقراطيين. كان مساعدًا خاصًا للرئيس جورج دبليو بوش، عارفًا بشؤون المنطقة، لا سيما سوريا والعراق وإيران. عيّنه الرئيس باراك أوباما في العام 2015 ليكون المبعوث الرئاسي الخاص للتحالف الدولي لمكافحة “داعش”. وكان عارضَ إعلان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب انتهاء الحرب ضد هذا التنظيم، ليُقدّم استقالته في كانون الأول (ديسمبر) 2018 ملتحقًا بوزير الدفاع جيم ماتيس احتجاجًا على قرار ترامب سحب القوات الأميركية من سوريا.

يتقدّمُ ماكغورك هذه الأيام بعرضٍ لسياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، يُحدّدُ فيها مبادئ خمسة تُشكّلُ ما أطلقَ عليه وصف “عقيدة بايدن”. والوصف مُستَلهَم من عنوان المقالة الشهيرة للصحافي الأميركي جيفري غولدبيرغ في صحيفة “ذي أتلانتيك” في 15 نيسان (إبريل) 2016 بعنوان “عقيدة أوباما”. وكانت المقالة حينها خلاصة مقابلاتٍ أجراها الكاتب مع الرئيس الأميركي آنذاك استنتج منها تلك العقيدة. في المقابل، فإن ماكغورك يستنتج هذه الأيام بالممارسة ومن واقع خبرته السابقة ومهامه الراهنة المبادئ التي تقوم عليها “عقيدة بايدن”.

في 14 شباط (فبراير) الجاري، وفي احتفالٍ لمناسبة الذكرى العاشرة لإنشاء مركز رفيق الحريري للشرق الأوسط التابع لـ”المجلس الأطلسي”، شرح ماكغورك “عقيدة بايدن” في الشرق الأوسط. وصف مبادئها بـ”الوضوح والواقعية والطموح”. اعتبر أنها إطارٌ وضعه الرئيس الأميركي في قمّة جدة في تموز (يوليو) 2021 التي جمعته مع 9 قادة عرب.

وفق ماكغورك، فإن “عقيدة بايدن” التي باتت بحسب قوله جُزءًا من استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة، تقوم على دَمجِ الديبلوماسية والردع والشراكة، واستمرار وجود جيش أميركي “مستدام واستباقي” في المنطقة وفق 5 مبادئ:

الأول: الشراكات. تدعم الولايات المتحدة الشراكات مع الدول الحليفة من أجل تمكينها من الدفاع عن نفسها ضد التهديدات الخارجية. من أمثلة ذلك ما قامت به واشنطن من تعزير لعلاقاتها مع الشركاء القدامى في المنطقة، من المغرب إلى مصر إلى إسرائيل ودول مجلس التعاون الخليجي، من خلال 200 مناورة عسكرية، وحوارات استراتيجية وزيارات رفيعة المستوى، بما في ذلك الرئاسية منها، ناهيك بجهودٍ تجري خلف الكواليس.

تحدَّثَ أيضًا عن بناء شراكات جديدة بتنسيقات جديدة، مثل “مجموعة I2U2” ما بين الهند وإسرائيل والإمارات العربية المتحدة والولايات المتحدة، أو منتدى النقب، الذي يجمع بين دول اتفاق أبراهام وشركاء إسرائيل في معاهدات السلام، الذي يعمل، بحسب قوله، على معالجة التحديات الملحة، من الأمن الغذائي إلى تغيّر المناخ إلى هيكل الأمن الإقليمي.

الثاني: الردع. يقوم هذا المبدأ على عدم سماح الولايات المتحدة للقوى الأجنبية أو الإقليمية بتعريض حرية الملاحة عبر الممرات المائية في الشرق الأوسط للخطر، بما في ذلك مضيقا هرمز وباب المندب. كما لن تتسامح مع جهود أي دولة للسيطرة على دولة أخرى في المنطقة من خلال التعزيزات العسكرية أو التوغّلات أو التهديدات.

ويسرُدُ ماكغورك أمثلة. يقول إن بلاده عزّزت القدرة الرادعة للشركاء، وأنشأت شبكات توعية بالمجال البحري جديدة ومبتكرة. يكشف أن واشنطن تدخّلت في الخليج في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، عندما كانت إيران تستعد لهجوم ضد المملكة العربية السعودية. ويرى أن من المرجح أن هذا الهجوم لم يحدث بسبب التعاون الأمني الوثيق بين السعودية والولايات المتحدة، المستمر والمتواصل. ذكّر ماكغورك أيضًا بالتدريبات العسكرية التي جرت في الشهر الماضي في شرق البحر الأبيض المتوسط، “وهو أمرٌ لاحظه خصومنا (…) لتهيئة الظروف للردع والاحتواء والسماح للديبلوماسية بالازدهار”.

الثالث: الديبلوماسية. يقول ماكغورك إن بلاده لن تكتفي فقط بالردع لردّ التهديدات التي يتعرض لها الاستقرار الإقليمي، بل ستعمل على تقليل التوترات وخفض التصعيد وإنهاء النزاعات حيثما كان ذلك مُمكنًا من خلال الديبلوماسية.

يقرّ الديبلوماسي الأميركي بخطَإ السياسة التي انتهجها بايدن حيال دول الخليج. ويعترف بأن ديبلوماسية بلاده ركّزت خلال العامين الماضيين على “رأب الصدع مع دول مجلس التعاون الخليجي التي أصبحت الآن أكثر اتحادًا مما كانت عليه في أي وقت مضى”. يضيف أن واشنطن شجّعت التقارب حيثما أمكن بين العواصم المتنافسة، وساعدت على تمكين خفض التصعيد في اليمن. يسرد جهود بلاده في إبرام اتفاق الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل. ويشير إلى النجاح في توحيد مواقف الولايات المتحدة وأوروبا وكثير من دول العالم ضد إيران في ما يتعلق بأنشطتها النووية ومعاملة شعبها وانتشار الأسلحة من اليمن إلى أوكرانيا.

الرابع: التكامل. يعتقد ماكغورك أنه المبدأ الأهم ويقوم  على بناء روابط سياسية واقتصادية وأمنية بين شركاء الولايات المتحدة، حيثما أمكن ذلك، مع احترام سيادة كل دولة وخياراتها المستقلة.

يكشف ماكغورك أن بلاده تعمل بنشاط على بناء بنية دفاع جوي وبحري متكاملة في المنطقة، وتمكينها من خلال الشراكات المبتكرة والتقنيات الجديدة. يضيف أنه، بخلاف الأمن، “ندعم اتصالات البنية التحتية عبر العراق والخليج والأردن. وندعم اتفاقيات التجارة الحرة الجديدة عبر المنطقة، وفتح المجال الجوي، بما في ذلك للطائرات الإسرائيلية، بغية جمع العناصر الأساسية لمنطقة أكثر ترابطًا وازدهارًا واستقرارًا في المَدَيَين المتوسط والطويل”.

الخامس: القِيَم. يؤكد ماكغورك أن واشنطن ستعمل دائمًا على تعزيز حقوق الإنسان والقِيَمِ المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة. ويعتبر أن هذه المبادئ – الشراكة والردع والديبلوماسية والتكامل والقيم – ليست شعارات، بل عناصر يُعزّزُ بعضها بعضًا. يقول إن واشنطن “ستُثير دائمًا مخاوف بشأن الحقوق الأساسية في مشاركتنا في المنطقة”، مؤكّدًا أن الرئيس الأميركي قد فعل ذلك في زياراته المنطقة في العام الماضي.

يُذكّرُ ماكغورك بأن بلاده هي أكبر مانح للمساعدات الإنسانية للمنطقة، لا سيما هذه الأيام، لتلبية احتياجات ما خلّفه الزلزال في كلٍّ من تركيا وسوريا، وأن الولايات المتحدة تُقرِنُ الأقوال بالأفعال بما يتماشى مع المبادئ الأساسية لميثاق الأمم المتحدة.

رُغمَ تلك المُطالعة، فإنه قد لا يبدو أن “عقيدة بايدن” تحمل ترياقًا يصلح ما أفسدته “عقيدة أوباما”. تقوم مبادئ السياسة الراهنة على الاعتراف بالشركاء والشراكة، بما يُخفّفُ من الانخراط الأميركي المباشر. تعترف تلك المبادئ بالتهديدات الإيرانية، فيما قلّلَ أوباما من شأنها وراح ينتقد بلدان الخليج للترويج للاتفاق النووي الذي دفعت إدارته إلى إبرامه مع طهران في العام 2015.

ومع ذلك، فإن واشنطن ما زالت قاصرة عن إنتاجِ سياسةٍ أخرى بشأن الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي الذي بات هامشيًّا أو يتم تناوله عرضيًّا لا يحيد عن رؤى إسرائيل واستراتيجياتها. والواضح أن المنطقة تحتاج إلى إنتاج عقائدها بنفسها وجعلها أساسًا لا يحتاج إلى عقائد تُصدّرها واشنطن كلّما تغيّرت هَوِيّة الإدارة في البيت الأبيض.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى