سلامَ لبنانِنا امنَحنا… يا سيِّدَ السلام

هنري زغيب*

لحظةَ ارتفعَت يمينُهُ مودِّعًا، قبْل دخولِه الطائرة، كان بتلويحةٍ مبارِكةٍ يختصر 46 ساعةً جاءَها إِلى “وطنٍ رسالة”، وغادرَه “مِساحةً روحيةً” في صيغة وطنٍ تَتَكوكبَ في فضائه معًا أَديانٌ وطوائفُ ومذاهب.

ستًّا وأَربعينَ ساعةً قضاها بين شعبٍ مُنَظَّمِ الاستقبال، راقي الترحيب، أَلْفِيِّ الحضُور على كتِفَيِّ الطرقات ترحيبًا، في وَسَاعة الساحات ابتهاجًا، حضاريِّ الإِحاطة، تَقَويِّ الإِصغاء، بحرٍ بَشَريٍّ يخدُمُ قدَّاسه الوَداعي… هكذا مرَّ بيننا خليفةَ بطرس، وتركَ لنا بخورًا بهيَّ الضَوْع، وِجْدانًا لشعبنا، كلِّ شعبنا لا يَنقُص طفلٌ منه، وبَرَكةً لأَرضنا، كُلِّ أَرضنا لا تنقُصُ منها حفنةُ تراب.

إِلى المسؤُولين دوَّى صوتُهُ في ضمائرهم قبل أَفهامهم: “إِسمعوا صرخةَ شعبكُم”، فتردَّدَت في كلماته أَصداءُ “المعلِّم” الذي دخل الهيكل وصرخَ في التُجَّار والمرائين: “بيتي بيتُ صلاةٍ جعلتُمُوه مغارةَ لُصوص”.

وإِلى شعبنا دوَّى صوتُه في القلوب قبل الأَسماع: “إِنهضوا ولا تيأَسوا… وطنُكُم لبنان سيُزْهرُ، ويصيرُ جميلًا، وقويًّا كما شجرةُ الأَرز”، فتردَّدَت في كلماته أَصداءُ السيَّد يقول للمخلَّع: “إِنهضْ.. إِحملْ فراشَكَ وامشِ”.

حين التقى أَهالي ضحايا المرفَأِ، جثَا أَمام طفلٍ فقَدَ أَباه في الانفجار ولَمَسَ جبينَه الطَريّ، فتردَّدَت في جُثُوِّه قولةُ يسوع في الجليل: “فَلْيَأْتني الأَطفال. لِمِثْلهم ملكوتُ السماء”.

وحين جثَا فوق، على تلَّة عنَّايا فوق، أَمام نَعش شربل، وصلَّى بجُمعَة كفَّين وانحناءَة رأْس، تردَّدت في جُثُوِّه صورةُ شربلَ الجاثي مُطْبَقَ عينَيْن مُشعَّتَيْن نورًا. وفي باحة بكركي، وهو يخاطب حشودَ شبيبة لبنان، شرَّف شِعري إِذِ استشهدَ بمطْلع قصيدتي عن شربل. قال لهم: “بِعَينَي القديس شربل المغْمَضَتَين، نُدركَ نُور الله بوُضوح أَكبر. والنشيدُ المخصَّصُ له جميل جدًّا إِذ يقول: “يا غافي وعيونَكْ لَعينَينا نُور… زَهَّرِتْ عَ جفونَكْ حبِّة البَخور”. في تلك اللحظة، أَحسستُ قصيدتي وُلدَتْ من جديدٍ بصوت البابا، بعد 47 سنة على ولادتها الأُولى، حين كتبْتُها، ولَحَّنها الحبيب جوزف خليفة، ورتَّلَتْها الغالية ماجدة الرومي أَمام المحبسة مساءَ الأَربعاء 28 حزيران/يونيو 1978.

ستٌّ وأَربعونَ ساعةً قضاها لاوون الرابع عشر في بلادنا. وحين أَزِفَتِ الساعةُ وغادرَنا، تركَ في قلوبنا غُصَّةَ أَنْ لو يبقى بَعد، كي يُطيِّبَ جرحنا بوجهه الأَلوف، المفتوحِ بقسَماتٍ حافيةٍ لا صوت لها، وبسمةٍ بدون فُتحة الشفتين، وسكونٍ هادئٍ غيرِ حياديّ.

ستٌّ وأَربعون ساعةً، تغيَّر خلالها لبنان: من بلادٍ واقعةٍ تحت الخوف من فجأَةِ مجهولة، إِلى بلادٍ آمنةٍ غدَها بِبَرَكَةِ من جاء إِليها يمنحُها طَمْأَنَةَ السلام. وليس في بلادنا أَغلى من السلام، أَعلى من السلام، أَحلى من السلام، أَجلى من السلام.

لكَ الطوبى يا سيِّدَ السلام، وأَنتَ رسولُه في هذا العصر القاتم: خَلِّنا في صلواتكَ كما وعَدْتَنا، وخلِّ في عينيكَ الرائيَتَيْن أَرزةً على تلَّةٍ تحضن هلالًا وصليبًا، ومحبسةً صامتةً تُصلِّي لأُعجوبةٍ بعدُ من راهبها القديم، وسيِّدةً باسطةً ذراعيْها على خليجٍ هادئ. وخَلِّ في صمتكَ عبارتكَ الرؤْيوية: “يا لبنان، قُم وانهض! كُنْ بيتًا للعدل والأُخوَّة. وكُن نُبوءَة سلامٍ لكلِّ هذا الـمَشْرق”.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى