قبَسٌ من نُور في السَوَاد الكثير

هنري زغيب*

لفَتَ البعضَ في مقالي لي سابق (“زلزالُ الحجَر يتبدَّد وزلزالُ البشَر يتجَدَّد”:”أَسواق العرب” 16 شباط/فبراير الجاري) كلامٌ عن الزلازل لم أَشأْ أَن أَقولَه مباشرةً بقَسْوة مآسيه، فتوجَّهْتُ به إِلى حُلْوة العينَين، إِذ راعها ما حصَل فقرأْتُ الذُعر في صوت عينَيها الحلوتَين. وكنتُ تعمَّدتُ ذلك في مخاطبتي إِياها، كي لا يكونَ نصي جافًّا أَو تحليلًا سياسيًّا أَنا في منأًى دائمٍ عنهُ.

وها هي حلوةُ العينَين تسائلُني من جديد: “أَيجوز النأْيُ عن الوضع الراهن، بما فيه من كوارثَ ومآسٍ يتخبَّط فيها شعبُنا كلَّ يوم أَكثر، فتُشيح عنها إِلى مواضيعَ ثقافية أَو أَدبية، بما فيها من انزياحٍ عن آلام الناس قرَّائك ومستمعيك”؟

نعم، يجوزُ يا حلْوةَ العينَين. يجوز لأَنني، في كلِّ مسيرتي الأَدبية منذ نصف قرنٍ حتى اليوم، كنتُ دومًا مع الثابت لا مع المتغير، مع الإِيجابي لا مع السلبيّ، مع التفاؤُل لا مع التشاؤُم، مع الدائم لا مع الآنيّ، والثقافة هي الدائمة، وما عداها زائلٌ عابرٌ بأَشخاصه وحوادثه، ولذا أَطوف في نصوصي بـأَعلام الثقافة ومواضيعها، فهي الباقيةُ بعد زوال العتمة وانقشاع الغيوم السُود.

هذا لا يعني أَنني منفصلٌ عن آلام شعبي في ما يحدث ويحصل، لكن سواي من الكُتَّاب يتولَّون بأَفضلَ مني مهمة النقر على ما يجري وتحليله وما فيه من شَوك، وأَحفظ لي مهمة الحديث عن العطر في بال الورد. إِنه الباقي بعد انكسار وخْز الشَوك.

هو هذا منطق السياسة: تَزُول آنيَّاتها وتُنْسى. وهو هذا منطقُ الآداب والفنون: لا تزول مع الآنيَّات ولا تُنسى مع السنين.

قليلون يعرفون أَنَّ لامرتين كان نائبًا سنة 1833، وترشَّح إِلى رئاسة الجمهورية سنة 1848 وخسِر أَمام لويس نابوليون بونابارت. لكنَّ الكثيرين يعرفونه شاعرًا ساطعًا ما زالت قصائده خالدة، وقصيدتُه “البحيرة” تروج بأَصلها وترجمة نقولا فياض، ورحلتُه إِلى الشرق ما زالت تتكرَّر مرجعيةً في الأَبحاث والمقالات.

وقليلون يعرفون أَنَّ فيكتور هوغو كان نائبًا في الجمهورية الثانية بين 1830 و1851، لكنَّ الكثيرين يعرفونه شاعرًا وروائيًّا ومؤلفًا دراميًّا ما زالت أَعماله تُطبَع وتُمثَّل مسرحيًّا وسينمائيًّا، ورائعتاه “البؤَساء” و”أَحدب نوتردام” بعض ما يخلُد منه اليوم وكلَّ يوم.

وقليلون يعرفون أَنَّ شاتوبريان كان وزيرَ دولة سنة 1815، ووزيرًا مفوَّضًا في برلين سنة 1821، وسفيرَ فرنسا في لندن سنة 1822، لكنَّ الكثيرين يعرفونه كاتبًا وروائيًّا وأَديبًا مَهَّد لولادة الرومنطيقية الفرنسية، وبها طبَع الأَدب الفرنسي في جميع العصور.

أَكتفي بهؤُلاء، يا حلوةَ العينَين، كي لا أُطيلَ التكرارَ والتعداد.

أَكتفي بهم لأَقول لكِ إِنني، ولو اليوم مقهورٌ مع شعبي في النفق الأَسْوَد الخانق، لا أَرى العتمةَ في العتمة، بل أُراقبُ النُور في زوايا العتمة بحثًا عن الضوء الآتي، وهو لا بدَّ آتٍ، في آخر النفَق. وغدًا، عندما ستنكسر العتمة ويزول معها كلُّ آنيٍّ وعابر، سيبقى نابضًا كلُّ ما كنتُ رأَيتُه متماوجًا باللون وسْط السَوَاد الكثير.

تمامًا تمامًا كما رغْم كلِّ ما يحيط بي اليوم سلبيًّا من انكسارِ جفونٍ ودموعِ قهرٍ وعذاب، سأَظلُّ إِيجابيًّا وأَرى انفتاحَ الصباح منْهَمِلًا من صدى البراءَة والدلال في عينَيكِ الحُلْوتَين.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى