أزمة القمامة ومستقبل لبنان السياسي

بيروت – رئيف عمرو

كانت “القشة التي قصمت ظهر البعير”، قال رئيس الوزراء اللبناني تمام سلام، معرباً عن تأييده للإحتجاجات المستمرة في أنحاء البلاد ضد حكومته التي فشلت لأكثر من شهر ونصف في جمع جبال القمامة في شوارع بيروت وضواحيها. كان بياناً سخيفاً لكنه كاشف؛ الطبقة السياسية في لبنان هي إما غافلة بشكل مذهل عن قصورها، أو ربما أسوأ من ذلك، بارعة للغاية في تجنب المسؤولية عن أيٍّ من متاعب البلاد.
يا حبذا لو كانت المشكلة تقتصر فقط على خدمات الصرف الصحي. نصف الشعب فقط مرتبط بإمدادات المياه الرسمية، التي معظمها بالكاد يعمل. أقلية صغيرة فقط تحصل على التغطية الكهربائية الشاملة؛ والباقي على تقنين التيار الكهربائي الصارم أو يعيش في الظلام. أكثر من ثلث الشباب في لبنان عاطلون من العمل. التعليم العام هو أضمن طريق للبطالة في المدى الطويل. الرعاية الصحية الحكومية هي أمنية موت؛ مُكلفة، والتأمين الخاص لا بد منه.
الأمن ليس للصالح العام، بل خدمة إنتقائية. كل طائفة كبيرة لديها قوات شرطتها ووكالة تجسس خاصة بها. بعضٌ، مثل “حزب الله”، لديه جيش. ليس من المستغرب أن العديد من الجرائم يمر من دون عقاب في لبنان، فتسريح السجناء إلى الحرية يتم قبل الأوان. في مثال بارز، إن قتلة رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري الذي إغتيل في 2005، لم يتم بعد تقديمهم إلى العدالة. اللاجئون السوريون يشكّلون ما يقرب من ربع سكان لبنان — أعلى عدد لاجئين بالنسبة إلى الفرد في العالم، وهذا من دون عدّ اللاجئين الفلسطينيين الذين ينتشرون في مخيمات في جميع أنحاء البلاد، والذين يشكلون نحو عشرة في المئة من سكان لبنان.
كثيرون يقولون أن جذور المشكلة تعود إلى زعزعة الإستقرار الناجمة عن سنوات من الحرب الأهلية والتدخل الأجنبي المستمر. كان لبنان مزدهراً ويعمل على ما يرام، تذهب الحجة، حتى تآمرت الدول الأجنبية ضده وإندلعت الحرب على أرضه في العام 1975. ولكن المتظاهرين في لبنان سمعوا بما فيه الكفاية من هذه الأعذار. وهم يعتقدون، كما أنا أعتقد أيضاً، بأن درب القمامة الحالي يمكن تتبعه والعودة به إلى النظام السياسي الفاسد في البلاد، ولا شيء غير ذلك.
الإحتجاجات الجارية ليست فقط حول أداء الحكومة — إنها على وشك صناعة إنفصال نظيف مع التاريخ من خلال التخلص من الهيكل السياسي في البلاد. بعضهم يجادل بأن النظام اللبناني كما هو غير قابل للإصلاح. إن تركيبة تمثيله السياسي، التي صنعها ودوّنها ثلاثة رجال دولة في لبنان في أوائل أربعينات القرن الفائت، قد إنتهت صلاحيتها. كل ما تفعله، كما يقولون، هو الحفاظ على إقطاعيات سياسية، وتشجيع المحسوبية، وتوليد الجمود، ومنع الإصلاح. ونتيجة لذلك، لبنان غير قادر على خلق حكومة فاعلة ومؤسسات دولة وطنية، وجيش قوي. طالما إستمر هذا النظام فإن لبنان سيبقى رهينة للتدخل الأجنبي وبعيداً من أي إستقلال وسيادة. ولهذا، ينبغي أن ينتقل إلى ديموقراطية غير طائفية من خلال قانون إنتخابي جديد يمنح السياسيين الصادقين، والفاعلين، وغير الطائفيين فرصة للفوز للوصول إلى البرلمان والحكومة.
لاشك أن المتظاهرين يريدون تحقيق شيء، ولكن الصعوبات تبدو مكدَّسة أمامهم وضدهم. أولاً، ليس من الواضح أن الغالبية في لبنان تريد إعادة تكوين النظام السياسي. في الواقع، ربما من الأصح القول أن معظمهم، لأنهم غير راضين تماماً عن الحكومة، هم أكثر إهتماماً في الإصلاح، وليس تغيير النظام. هؤلاء الناس يقولون ان النظام في البلاد سمح للبنان الهروب من الإستبداد والثيوقراطية. وتحمل الضوابط والتوازنات في البلاد في ثناياها عوامل تمنع أي طائفة من الهيمنة على الأخرى، وضمان أن كل مجموعة تحصل على قطعة من الكعكة السياسية وتتعايش مع كل المجموعات الأخرى. هناك حكومة مركزية، ولكن النظام يضمن أيضاً الكثير من الحكم الذاتي السياسي والإقتصادي في البلاد، بحيث يمكن أن تُحكم كل منطقة وفقاً لتفضيلات الدوائر الإنتخابية الخاصة بها.
ويعترف اللبنانيون المؤيدون للوضع الحالي بأن النظام يمكن أن يستفيد من إصلاحات لجعله أكثر حداثة وعلى أساس الجدارة، ولكن أي إعادة توجيه جذرية للسياسة ستدعو الفوضى والصراع. بإختصار، نعم للحكم الرشيد، لا لقواعد سياسية جديدة. ومع ذلك، لا شيء يمكنه أن يكون أكثر ضرراً برفاه لبنان. نظام البلد القائم على المحاصصة هو ببساطة لا يمكن تحمله؛ فهو يقتل تكوين الدولة، ويقسّم الأمة الأمر الذي يحول دون الإندماج الإجتماعي، ويدفع التقدم في البلاد نحو الديموقراطية الكاملة — هدف مدوَّن في الدستور اللبناني — بعيداً.
العامل الآخر الذي يعمل ضد المتظاهرين هو أن القوى الإقليمية التي لها تأثير كبير في السياسة في بيروت تفضّل الوضع الراهن. في وقت يشتعل الوضع في العراق وليبيا وسوريا واليمن، فإن إعادة هندسة نظام لبنان قد تكلّف البلاد التوازن الهشّ وتوسيع قوس الأزمة في منطقة الشرق الأوسط. وعلاوة على ذلك، فإن نظاماً لبنانياً أكثر تمثيلاً وشفافية ومساءلة على الأرجح أنه يقوّض مصالح العملاء المحليين لهذه الدول الإقليمية. لنستشهد ببضعة أمثلة، الأمين العام ل”حزب الله” السيد حسن نصر الله وزعيم “تيار المستقبل” سعد الحريري لم يكن بإستطاعتهما البقاء والصمود كل هذا الوقت لولا أن إيران والمملكة العربية السعودية، على التوالي، لم تمولاهما وتحميا حياتهما السياسية. لا عجب، إذن، أن زعماء الطوائف الرئيسية في لبنان قد أصدروا أوامرهم الصارمة لناخبيهم بعدم الإنضمام إلى حركة المتظاهرين.
حتى إذا كانت الأرقام ليست في صالح المتظاهرين، فلا يمكن الإنكار أن تحركهم يعتبر تاريخياً. في الواقع، منذ تأسيس الجمهورية، لم تنوجد مثل هذه الشريحة الواسعة من المجتمع التي تشكك بشكل واضح وعلني بالنظام السياسي اللبناني، أو تدعو إلى إصلاح شامل له. في السنوات الأخيرة، عُقدت حوارات وطنية لبنانية عدة حول سلاح “حزب الله” والإستراتيجية الدفاعية الوطنية. ومما لا يثير الدهشة، فلم تؤدِّ إلى شيء، ذلك لأن كل هذه القضايا عرضية وهي أعراض لمشاكل أعمق. القضية الحقيقية هي وكانت دائماً النظام الفاشل في البلاد.
لقد سعت الحكومة اللبنانية فعلياً بلا خجل إلى طلب مساعدة أجنبية لحل أزمة القمامة. ومن الممكن أيضاً أن يحصل المتظاهرون على رغبتهم، إذا إستمروا بالتظاهر، بإستقالة وزير البيئة اللبناني ووزير الداخلية من منصبيهما. حتى أنهم قد ينجحون بالضغط من أجل حل البرلمان اللبناني وإنتخاب رئيس جديد. (البلاد بلا رئيس للجمهورية منذ أكثر من سنة). ولكن ما بدأوه، وربما حتى من دون معرفة، هو أكثر عمقاً بكثير. لقد أجبروا البلد بأكمله، وربما حتى جيرانه، على التعامل مع بعض المسائل السياسية الرئيسية، الأمر الذي حدا بسياسيي البلاد إلى إجراء طاولة حوار والتي من المرجح أن لا تؤدي إلى نتيجة.
بالنظر إلى دوره التقليدي كمركز فكري في العالم العربي، ليس هناك مكان أفضل من بيروت لإجراء مناقشة صادقة حول مستقبل الحكم اللبناني. ولكن هذا الحديث هو أهم من أن يقتصر على “المشاجرة” اللبنانية. فيما يكافح الشرق الأوسط مع أسئلة حول الشرعية السياسية والعقد الاجتماعي، ينبغي على الجميع الإستماع والمشاركة في النقاش.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى