لبنان يُبعِد الفتنة رغم كل الصعاب

بيروت – رئيف عمرو

لا يزال لبنان بلا رئيس للجمهورية منذ أيار (مايو) الفائت، والآثار السلبية بدأت تبرز على الزعماء المسيحيين. مع ذلك، إن ملء هذا الفراغ هو مجرد واحد من سلسلة تحديات سوف تواجهها البلاد في الأشهر المقبلة.
عندما إنتهت فترة الرئيس ميشال سليمان في العام الماضي، أدى رفض أبرز السياسيين المسيحيين الإلتفاف حول خليفة توافقي إلى منع إجراء إنتخابات رئاسية. والسبب هو أن البرلمان يَنتخِب رئيس الجمهورية في لبنان، الذي يجب أن يأتي ، حسب الميثاق الوطني، من الطائفة المسيحية المارونية.
الكتلة البرلمانية بزعامة العماد ميشال عون رفضت حضور جلسات الإنتخابات لأنها تريد عرقلة العملية حتى يتم إختيار رئيسها للمنصب. من جهتها فعلت كتلة “حزب الله”، تضامناً مع عون، الشيء عينه، الأمر الذي أدّى إلى منع إكتمال نصاب النواب.
بينما يبدو أن عناد عون هو السبب الظاهر لعرقلة إنتخاب رئيس، فإن معظم المراقبين يرى أن السبب الحقيقي يعود إلى “حزب الله” الذي يريد تأجيل التصويت، وقد إستغلّ تكتيك العونيين للقيام بذلك. إن هدف الحزب يكمن في الإنتظار لحلول وقت أكثر ملاءمة يضمن “إنتخاب” رئيس مكفول بأنه سيدافع عن ترسانة أسلحته المستقلة.
يمكن أن يحدث هذا إذا توصّلت الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الامن إضافة الى ألمانيا الى إتفاق نووي مع إيران. بالنسبة إلى “حزب الله” فإن مثل هذا الاتفاق من شأنه أن يعطي طهران مساحة سياسية أكبر في المنطقة، مما يتيح للطرف المؤيد للجمهورية الإسلامية بجلب الرئيس الذي يريد.
في الوقت عينه، تدرك الزعامات المارونية أنه حتى من دون رئيس للجمهورية فإن مجلس الوزراء مستمر في العمل. وهذا هو السبب بأن كثيرين يعارضون جهود رئيس الحكومة تمام سلام للموافقة على عملية تصويت جديدة في مجلس الوزراء لتحل محل الإجماع المطلوب الآن لإتخاذ القرارات. هذه الآلية، يقولون، ستجعل الحكومة أكثر كفاءة، مما يقلّل من الحاجة الملحّة لإنتخاب رئيس.
ويأتي الخلاف في مجلس الوزراء في لحظة سيئة بالنسبة إلى لبنان، وسط مخاوف من أن الجماعات الجهادية في منطقة القلمون السورية تخطّط لزعزعة إستقرار المنطقة الحدودية اللبنانية. في الأسابيع الأخيرة، تلقى الجيش اللبناني أسلحة من الخارج. وهي مصممة لتسمح للبنان الدفاع عن حدوده.
من أجل الحد من التوترات الطائفية، فإن “تيار المستقبل” بزعامة سعد الحريري، و”حزب الله” بزعامة السيد حسن نصرالله، إنخرطا في حوار لأسابيع عدة. وقد حدث ذلك على الرغم من المحاكمة الجارية ضد أعضاء “حزب الله” الأربعة المشتبه بهم بأنهم إغتالوا رفيق الحريري في العام 2005. لذا، فإن دخول “تيار المستقبل” في هذا الحوار في هذا الوقت بالذات يشير إلى أن المملكة العربية السعودية هي التي دفعته إلى ذلك.
في حين أن هناك مخاوف من إنتشار التطرف بين السنة اللبنانيين الفقراء، فقد ظلّت الأوضاع الأمنية تحت السيطرة ورقابة مشدّدة من قبل الجيش وقوى الامن الداخلي و،على الرغم من أنه أقل ذكراً، من قبل “حزب الله”. مع ذلك، هذا لا يعني عدم وجود قلق. إن وجود نحو 1.5 مليون لاجئ سوري، وكذلك جماعات سلفية في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، لا يزال مدعاة للقلق بالنسبة إلى السلطات اللبنانية.
وكانت المفارقة في الوضع اللبناني أن البلاد التي إعتُبرت سابقاً تجسيداً للعنف الطائفي أثبتت كفاءة ملحوظة في تجنب ذلك هذه المرة. لقد أدركت الطوائف اللبنانية المختلفة مخاطر الصراع بين السنة والشيعة، وإتخذت خطوات لتخفيف التوتر.
بينما دولٌ، مثل سوريا والعراق، قد إنهارت بسبب العنف الطائفي، فإن لبنان، على الرغم من حربه الأهلية بين 1975 و1990، لم يتفكك. إن مؤسسات الدولة، على الرغم من أنها كانت مهمّشة، إستمرت في العمل حتى في أحلك سنوات القتال.
وهذا يعود على الأرجح إلى أن النخبة السياسية اللبنانية منذ زمن الإستقلال أخذت في الإعتبار الإختلافات الطائفية في البلاد. وقد وضعت من أجل ذلك نظاماً سياسياً شمل تقاسم السلطة والتسوية. وبينما كان النظام مختلاً بشدة في بعض الأحيان، فقد إعتُرِف به كنظام ملائم لتعقيدات لبنان الطائفية.
ويمثّل هذا تناقضاً صارخاً مع الأنظمة القومية العربية في سوريا والعراق، التي دفنت دائماً الإنقسامات الطائفية تحت سطح الوحدة القومية العلمانية الزائفة، وعادة ما كانت تُفرَض من فوق. لهذا السبب عندما واجه البلدان الصراع الطائفي والعرقي، كان هناك عدد قليل من آليات لحل الخلافات، الأمر الذي سهّل تحطيم الدولتين.
في الأشهر المقبلة من المحتمل أن يُختبَر لبنان عسكرياً في المنطقة الحدودية مع حكومة تكافح لإيجاد تسوية مؤقتة بين الفصائل السياسية المختلفة. وسيواصل “حزب الله” و”تيار المستقبل” الحوار بينهما، حتى مع إنجرار الأول أكثر إلى الغضب العارم في سوريا. إقتصادياً، فإن البلاد لا تزال تعاني، مثلما كان الأمر معها على مدى أربع سنوات.
ولكن حتى فيما سيشعر اللبنانيون بأنهم قد إقتربوا من حافة الهاوية، فإن نظامهم سيكون أكثر عرضة، من معظم الأنظمة في المنطقة، لإستيعاب الصدمات. إن الكثير من الثقة بالنفس هو أمر سيئ، لكن يبدو أن القلق دفع اللبنانيين لكي يكونوا ودودين وإسترضائيين إن لم نقل “مصلحجيين”. والشذوذ المنعش هنا هو أن البلد الذي كان من المتوقع أن يكون أقل قدرة على مقاومة الفوضى الطائفية التي تجتاح المنطقة تمكّن من البقاء صامداً وواقفاً على قدميه، على الأقل، حتى الآن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى