لبنان: إنتحار شخص كل 3 أيام!

تشير تقديرات منظمة الصحة العالمية إلى أن ما يزيد عن 800 ألف شخص يموتون إنتحاراً كل سنة، ما يعني أن شخصاً واحداً ينتحر كل 40 ثانية حول العالم.
وفي لبنان يموت شخص من طريق الإنتحار كل 3 أيام، لكن المعدل الشهري إرتفع إلى 12 شخصاً في العام 2014 ، لنصبح أمام معدّلات صادمة في بلد صغير كلبنان، إلا أن هذا المعدل الصادم لا يمثل الواقع الحقيقي، فالجوانب الإجتماعية والدينية والقانونية لثقافة اللبنانيين تحدّ من الإبلاغ عن حالات الإنتحار.

جاد هيمو: لماذا إنتحر؟
جاد هيمو: لماذا إنتحر؟

بيروت – مازن مجوز

في خطوة هي الأولى من نوعها في لبنان وبرعاية وزير الصحة العامة وائل أبو فاعور أطلق المركز الطبي في الجامعة الأميركية في بيروت في 11 أيلول (سبتمبر) الفائت بالإشتراك مع صندوق “Embrace” الحملة الوطنية الأولى للوقاية من الإنتحار.
وتبيّن أن الإنتحار يحتل المرتبة الثانية بين أهم أسباب الوفيات بين الشباب الذين تراوح أعمارهم بين 19 و25 عاماً. فيما أظهرت تحقيقات الشرطة أن ثمة 20 شخصاً يحاولون الإنتحار في مقابل كل شخص يموت منتحراً.
ويؤكد أبو فاعور أن إحصاءات منظمة الصحة العالمية صادمة وإستنتاجات هذه الدراسة مخيفة، ومع إبدائه التقدير لكل المفاهيم الدينية تساءل :”هل إن الإنتحار من منطلق إنساني، هو إخفاق للمنتحر أم هزيمة للمجتمع الذي ينتمي إليه؟ وهل يجب على المقرَّب من المنتحر أن يشعر بالخجل أم بالذنب؟”.
وعادة ما يكون الحصول على بيانات دقيقة عن حالات الإنتحار في لبنان صعباً للغاية، لكن هذه الدراسة أظهرت أن أعداد المنتحرين في تزايد. مستندة في ذلك إلى إحصاءات وزارة الداخلية التي شملت حالات الإنتحار من العام 2008 إلى تموز(يوليو) 2014.
وتشير التقديرات إلى زيادة نسبة الانتحار في لبنان في العام 2014 بنسبة 25 % مقارنة مع الأعوام السابقة.
ويشرح رئيس قسم الطب النفسي في المركز الطبي في الجامعة الاميركية في بيروت الدكتور زياد نحاس: “ليس صحيحاً أن كل من يُقدِم على الإنتحار يريد فعلاً أن يموت. ففي الحقيقة كل ما يريده هو التخلص من الألم الذي يعانيه”. معتبراً أنه من غير الصحيح أن الناس الذين يحاولون الإنتحار هم ضعفاء، أنانيون أو يحاولون مجرد الحصول على الإهتمام. “في الحقيقة أن 90% من حالات الإنتحار هي نتيجة شكل من أشكال المرض النفسي مثل الإكتئاب أو الإدمان على الكحول أو المخدرات أو مرض الفصام الذي يمكن معالجته”.
ويشدّد نحّاس على أن “الأرقام الفعلية مجهولة، وقد بتنا بحاجة ملحة إلى خطة عمل لتغيير مسار مرضانا. ويتحقق الأمل من خلال إدراك أنه كما هو الحال مع الأمراض الطبية الأخرى، يجب تشخيص وإستباق المرض النفسي قبل أن تصبح أعراضه مزمنة. لذلك يجب التدخل في وقت مبكر، كما يتم مع السرطان وأمراض القلب”.
ففي لبنان واحد من 4 اشخاص قد يعاني مرضاً نفسياً خلال حياته، لكن نسبة قليلة تحصل على العلاج وفق نحاس. والذي دفعته البيانات الجديدة إلى بدء حملة تهدف إلى جمع تبرّعات بالتنسيق مع وزارة الصحة لوضع أول خط ساخن لمساعدة المتَّصلين بالإرشادات الصحية والعقلية اللازمة، وهو يأمل من خلالها زيادة الوعي بشأن الإنتحار.
ومن الخطوات التي شملتها الحملة وضع لافتة حول صخرة الروشة في بيروت كتب عليها “إذا فينا نحضن الروشة سوا.. فينا نحضن كل انسان حتى ما ينتحر شخص بلبنان كل ثلاثة أيام”. وصخرة الروشة – كما هو معلوم – هي من الأماكن التي ينتحر الكثيرون بالقفز منها.
وسيحظى مشروع الخط الساخن بدعم من وزارة الصحة التي ستجمع متخصّصين من مختلف أرجاء لبنان لمساعدة المتَّصلين بالإرشادات الصحية والعقلية اللازمة. فيما ستساعد التبرعات في تمويل هذا الخط للمساعدة على عدم الإنتحار وهو خدمة ضرورية غير موجودة حالياً في لبنان.
هذا الواقع الجديد لم يغيِّر من الإعتبار بأن “فكرة الإنتحار” بحدّ ذاتها تبقى مرفوضة بإجماع كل الأديان والطوائف والأعراف الإنسانية والإجتماعية، لكن إستمرار وجودها تحوّل إلى ظاهرة تهدّد المجتمع اللبناني يقف وراءها الكثير من الأسباب، أسباب تجعل من البعض ينتكسون ويفقدون الأمل في الحياة لعدم تحقيق رغباتهم وطموحاتهم، لهذا يفكرون في الموت من طريق الإنتحار وبأساليب متنوعة يتفننون بها، ما يحتّم البحث عن آلية لمعالجتها من قبل الدولة والمعنيين.
وتتعدّد الضحايا وتكثر القصص المتعلقة ب”الإنتحار” وبمحاولات الإنتحار، في وقت يشترك الانتحار مع محاولة الإنتحار ب”غلبة غريزة الموت على غريزة الحياة” إلا أن الأخيرة تتوقف في لحظة يجد فيها القائم أسبابا موجبة للتوقف والتراجع.
وبالعودة إلى الدراسة يقول نحاس أنها أظهرت أن إثنين من كل ثلاثة من الأشخاص المنتحرين هم من الذكور، غير أن محاولات الإنتحار بين النساء هي أعلى بكثير عنها بين الرجال.
ومن أبرز حالات الإنتحار التي شهدها العام 2014 في بلاد الأرز وتحديداً في 10 أيلول (سبتمبر) إنتحار سائق سباقات “الدرفت” الحائز على بطولة الشرق الأوسط جاد هيمو، بإطلاقه النار على رأسه مستخدماً مسدس صديقه.
وصرح صديقه الملقب بـ”يويو” والذي رافقه في يوم الحادث بأن هيمو توقف على طريق بعبدات قرابة الساعة 11:30 ليلاً وطلب منه أن يعطيه مسدّسه الحربي ليجربه، ثم نزل من السيارة وأطلق النار على نفسه وتوفي على الفور.
ويُجمع أقرباء هيمو على أنه لم يكن يعاني من أي إضطراب نفسي أو ضائقة مادية أو مشكلات إجتماعية، وأنه شاب مثقف ومرح ويحب الحياة ويعيش حياة ترف لا ينقصه فيها شيء.
كل هذه المعطيات تدعونا للتوقف عند المعدلات الشهرية لظاهرة الإنتحار في لبنان، حيث يفيد رئيس شعبة العلاقات العامة في قوى الأمن الداخلي المقدم جوزيف مسلم بالتالي: سجّل العام 2009، 112 حادثة إنتحار أي بمعدل 9 حالات شهرياً. وبلغ عدد حوادث الإنتحار في العام 2010، 107 حالات أي بمعدل 9 شهرياً. أمّا في العام 2011، فقد وصل العدد إلى 102 أي بمعدل 8 حالات شهرياً. وبقي المعدل ذاته في العام 2012، وفي العام 2013، 9 أشخاص، ليصل إلى 12 شهرياً في العام 2014.
أما بالنسبة إلى محاولات الإنتحار فقد وصل عددها إلى 6 في العام 2011 و5 في العام 2012 و7 في العام 2013 و8 في العام 2014.
وتوضّح التقارير الأمنية أنّ أسلوب الإنتحار في لبنان يعتمد بشكل اساسي على إطلاق النار في الرأس أو شنق النفس، وهو لا يتركزّ في منطقة معينة، بل ينتشر على كافة الأراضي اللبنانية.
وإنتقالاً إلى أسباب الإنتحار في لبنان، وخصوصاً في صفوف المراهقين والشباب نجد أنها عديدة، منها تزايد الإضطرابات النفسية في أماكن عدة في العالم، التّي إنتشرت بدورها في لبنان بفعل عدوى العولمة وإستشرت في مجتمعات كانت في الماضي أكثر أماناً وإطمئناناً، وفي مقدّمها مجتمعاتنا الشرقية المحافظة والمتديّنة.
ومن الملاحظ في الآونة الأخيرة أن غالبية حالات الإنتحار في لبنان تحدث لأسباب معيشية ومادية، في ظلّ الظروف الصعبة التّي يعيشها لبنان وفي مجتمع يرزح فيه المواطن تحت ضغوطات الحياة والمشكلات الإقتصادية والسياسية المتفاقمة، والمشكلات الإجتماعية المتفشية كالإغتصاب والثأر وإزدياد حالات الإكتئاب.
بدوره سامي ريشا، رئيس قسم الطب النفسي في الجامعة اليسوعية يرى أنه ما من تعريف محدّد واحد للإنتحار، بل هناك مدارس متنوعة تجاه هذا التعريف، فالإنتحار هو “كل عملية يقوم بها شخص تجاه نفسه وتؤدي الى موته”. ولكن ما هو مختلف عليه هو تحديد العوامل التي أوصلت إلى الإنتحار. أما إختلاف المدارس فهو في نظريات الامراض وليس في الإنتحار”. ليخلص إلى أن “الإنتحار ليس مرضاً إنما عارض مرضي”.
في المقابل تقترح الإختصاصية في مجال الدعم النفسي والإجتماعي في الجامعة الأميركية في بيروت والإستشارية علا عطايا “تعزيز لغة الحوار المنفتحة بين الأهل وأولادهم، وزيادة برامج التوعية الشبابية وشرح الخصائص العمرية، وكذلك في إيجاد مساحات صديقة لكل الأعمار، وحدائق للترويح عن النفس”.
وإذ تبدي أسفها لغياب الكثير من أسباب الوقاية المسبقة، تعتبر أن “مجتمعنا غير محصّن امام التغيرات التكنولوجية ومتطلبات الأحوال المعيشية”، كاشفة عن وجود “حال من الإنحدار الاجتماعي”، تنسبها الى غياب المحبة، وراحة البال، وإزدياد العدوانية في العلاقات الإجتماعية. والشرخ في العلاقات، “ما يضعنا في حيرة من أين نبدأ بالمعالجة”، وفق تعبيرها .
وتفسّر الضغوط وفقاً لقاعدة الباحث الإجتماعي “ماسلو” أنها “تبدأ بالحاجات الفيزيولوجية من مأكل ومشرب ومأوى، بعدها يأتي الشعور بالأمان والإستقرار، ثم تحقيق الذات. ولهذه الاسباب تشير عطايا الى إرتفاع حالات الضيق في المجتمع اللبناني، تضاف إليها سرعة التغير في أساليب الحياة، وتسارع متطلباتها الى جانب عدم القدرة على الحصول عليها.
واللافت أن “عوامل الضغط يقابلها قيم التربية وحماية المجتمع ووجود الأصدقاء، والتمسك بالإيمان، والتي بدأت تتراجع كقيم في أيامنا هذه، ما يدفعها الى ضرورة التنبه الى تنمية حسّ الثقة بالنفس، والقدرة على المواجهة، وتوعية المجتمع لأهمية التماسك القيمي الإخلاقي. أما دور الدولة ومؤسساتها فهي عديدة في مجال الوقاية وأبرزها تأمين الرؤية الواضحة لمستقبل الشباب، وأيضاً في بث شعور الامان لدى المواطنين”.
وفي أول تقرير دولي لوضع حد للإنتحار، تقول منظمة الصحة العالمية التابعة للأمم المتحدة، إن نحو 75 في المئة من حالات الإنتحار تحدث بين أشخاص من دول فقيرة أو متوسطة الدخل، داعية إلى بذل مزيد من الجهود لتقليل فرص الوصول إلى الأدوات الشائعة للإنتحار.
ويكشف التقرير أن حالات الإنتحار تحدث في كل أنحاء العالم وفي أي فئة عمرية تقريباً. إلا أن الفئة العمرية الأكثر تسجيلاً للانتحار هي لمن تخطوا سن السبعين والشباب ما بين 15 و29 سنة.
ويضيف أن معدلات الانتحار بين الرجال بوجه عام أعلى منها بين النساء. وفي الدول الثرية يبلغ عدد الرجال الذين ينتحرون ثلاثة أضعاف عدد النساء اللواتي يقدمن على ذلك.
وبنظر مديرة المنظمة مارغريت تشان فإن التقرير هو “دعوة للتحرك من أجل معالجة مشكلة كبيرة للصحة العامة إعتبرت من المحرّمات لفترة أطول مما ينبغي”.
وذكرت المنظمة إن الانتحار يحصد أرواح أشخاص أكثر من النزاعات العسكرية والكوارث الطبيعية.
ووفقًا للتقرير، وجدت بعض أعلى معدلات الانتحار في وسط وشرق أوروبا وآسيا، مع وقوع 25% من الحالات في الدول الغنية.
ويبلغ المعدل الدولي 11،4 حالة إنتحار على كل 100 ألف شخص، وتتقدمها قارة آسيا بمعدل 17،7. كما أن نسبة الإنتحار في الدول المتقدمة (12،7) يعد أعلى من نسبة الدول الفقيرة (11،2). وفي ما يتعلق بالدول العربية حلت السودان بنسبة عالية جداً تقارب النسبة الآسيوية حيث أنها تعدّ من أعلى الدول تسجيلا للانتحار بـ 17،2 حالة على كل 100 ألف.
وفي آخر ترتيب للدول العربية وأقلها تسجيلاً لظاهرة الانتحار تأتي متساويتين كل من السعودية وسوريا. وفي ما يلي الترتيب والنسبة من الأعلى حتى الأقل (النسبة لكل 100 ألف شخص): السودان: 17،2، المغرب: 5،3، قطر: 4،6، اليمن: 3،7، الإمارات: 3،2، موريتانيا: 2،9، تونس: 2،4، الأردن: 2، الجزائر: 1،9، ليبيا: 1،8، مصر: 1،7، العراق: 1،7، عُمان: 1، لبنان 0،9، سوريا: 0،4، السعودية: 0،4.
وفي الختام يرى المدير الاقليمي لمنظمة الصحة العالمية لشرق المتوسط الدكتور علاء الدين العلوان أن “القيم الدينية في المجتمع العربي تحدّ من حالات الإنتحار. ولكن ماذا لو سألنا عمن يعتنقون هذه القيم ويقومون بنحر الآخر المختلف عنهم؟
ويبقى السؤال الأكثر إلحاحا: ” لماذا تقصير وسائل إعلامنا المحلية بكافة فروعها في التطرق الى مسالة الإنتحار من زوايا الوقاية منه والتحذير والتوعية؟ نعم …هناك تقصير هائل!”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى