بناء الإتحاد المصرفي يحدّد مستقبل أوروبا

إختبارات الضغط والإجهاد والتحمل الأخيرة التي أجراها البنك المركزي الأوروبي على المصارف الأوروبية في العام الفائت وجدت ان 25 بنكاً في منطقة اليورو تعاني نقصاً في أموالها الخاصة أو رأس المال، وأظهرت بعض المفاجآت لكنها لم تتسبب في أي ردود أفعال سياسية أو مالية كبيرة في القارة العجوز. ومع ذلك، لم تكن هذه الإختبارات سوى بداية عملية معقّدة لبناء إتحاد مصرفي في الإتحاد الأوروبي. على عكس إختبارات الإجهاد، يمكن أن تؤدي الخطوات المقبلة في هذا المشروع إلى خلق المزيد من الإنقسامات في أوروبا لأن البرلمانات الوطنية سوف تشارك في العملية في وقت يعرف إرتفاعاً في التشكك في أوروبا. الأهم من ذلك، إن إختبارات الإجهاد لن يكون لها تأثير خاص على المشكلة الرئيسية في القارة: تشديد شروط الإئتمان بالنسبة إلى الأسر والشركات. من دون تحسّن كبير في شروط الإئتمان، لا يمكن أن يكون هناك إنتعاش إقتصادي كبير، وخصوصاً في محيط منطقة اليورو.

رئيس البنك المركزي الأوروبي ماريو دراجي: هل ينجح في المرحلة الثانية؟
رئيس البنك المركزي الأوروبي ماريو دراجي: هل ينجح في المرحلة الثانية؟

بروكسل – ليلى الحلو

كان للبنك المركزي الأوروبي هدفان أساسيان على المدى القصير لإختبارات التحمّل والإجهاد التي أجراها على البنوك الأوروبية في العام الفائت. فمن ناحية، كان عليه أن يأتي بإختبار صعب بما فيه الكفاية ليكون ذات مصداقية بعد الإختبارات التي أجراها في عامي 2010 و2011 والتي إعتبرت على نطاق واسع بأنها ليّنة جداً وتفتقر إلى المصداقية. من ناحية أخرى، لم تُسفر الإختبارات عن نتائج سيئة ووخيمة بما يكفي لتوليد حالة من الذعر. يمر الإتحاد الأوروبي بمرحلة من الهدوء النسبي في الأسواق المالية، ولم يكن البنك المركزي الأوروبي يرغب في خلق موجة جديدة من عدم اليقين حول مستقبل البنوك في أوروبا.
في حين جذبت الإختبارات بعض الإنتقادات، فقد حقق البنك المركزي الهدفين اللذين أرادهما. من 130 بنكاً مشاركاً في الإختبارات، كان 25 منها ينقصها رأس المال اللازم، وهو إستنتاج أكثر شدة قليلاً من التقديرات المتوقّعة. من تلك البنوك ال25، هناك 13 يجب أن ترفع رؤوس أموالها وأن تجمع 9.5 مليارات يورو جديدة في الأشهر التسعة المقبلة. مع ذلك، لم يكن أيٌّ من الإختبارات الفاشلة بمثابة مفاجأة. كان مصرف “مونتي دي باشي” الإيطالي، الأسوأ أداءً في الإختبارات، في ورطة منذ فترة طويلة، وكان عليه الحصول على مساعدات من الحكومة الإيطالية في العام 2012. البنوك الفاشلة الأخرى تقع في بلدان مثل سلوفينيا واليونان اللتين كانتا شديدة التأثر بالأزمة المالية. وبينما إنخفض أسعار أسهم بنوك عدة خلال جلسة التداول في 27 تشرين الأول (أكتوبر) الفائت، فلم تحدث إنهيارات.
لم تكن إختبارات التحمّل التي جرت مثالية – فقد إستخدمت بيانات تعود إلى كانون الأول (ديسمبر) 2013 وقامت بها في الغالب كل دولة مشاركة على حدة. وإنتُقِدت أيضاً المنهجية والسيناريوهات التي إتّبعت. على سبيل المثال، إن “السيناريو السلبي” الأكثر تطرفاً المدرج في الإختبارات يعتبر الإنخفاض في معدل التضخم 1 في المئة في العام 2014، على الرغم من أن المعدل قد إنخفض فعلياً إلى نحو 0.3 في المئة. كما أن القرار الذي شمل فقط 130 بنكاً “نظامياً”، فيما غضّ الطرف عن أصغر – وربما أضعف – المؤسسات المالية جذب هو الآخر بعض النقد. ولكن عموماً، تعتبر الأسواق بأن الإختبارات كانت شرعية، لا سيما بالمقارنة مع الإختبارات الضعيفة التي حدثت منذ بداية الأزمة الأوروبية.
لكن، إن إختبارات الإجهاد ليست سوى نقطة البداية في عملية أعمق من ذلك بكثير ومعقّدة لخلق إتحاد مصرفي في أوروبا. وكانت هذه المسألة مثيرة للجدل تقليدياً جداً في القارة العجوز. وفيما أصبحت أوروبا أكثر تكاملاً، إقترح بعض صناع القرار إنشاء إتحاد مصرفي لإستكمال السوق الداخلية في القارة والعملة الموحّدة. مع ذلك، فإن القومية وتباين المصالح السياسية جعل من الصعب جداً تحقيق هذا المشروع، وتم التخلي عن الفكرة خلال مفاوضات معاهدة ماستريخت في العام 1991، وعادت مرة أخرى إلى الواجهة خلال مداولات معاهدة نيس في العام 2000.
لكن أزمة منطقة اليورو – والخوف من عدم الإستقرار المالي الذي ينتشر بين الدول التي تشترك في اليورو – أشعلت الجدال حول الإتحاد المصرفي. إن أزمات متزامنة في دول مثل اسبانيا وايرلندا، حيث أُجبرت الحكومات الوطنية على طلب المساعدات الدولية لإنقاذ البنوك المتعثرة، جعل أوروبا تشعر بالحاجة إلى كسر الحلقة المفرغة الضارة بين البنوك والسيادات.

النقاش السياسي المقبل

في العام 2012، أعلن الإتحاد الأوروبي أن الإتحاد المصرفي سيُنفّذ على مرحلتين. خلال المرحلة الأولى، فإن البنك المركزي الأوروبي سوف يكون المركز الذي يشرف على الإستقرار المالي للبنوك المشاركة. في مرحلة لاحقة، سوف تُدخل بروكسل “آلية القرار الواحد” و”صندوق القرار الواحد” ليكونا مسؤولين عن إعادة هيكلة وإغلاق محتمل للمصارف الكبيرة.
كانت المرحلة الأولى من إنشاء الإتحاد المصرفي مثيرة للجدل لأن بعض الدول الأعضاء رفض إعطاء البنك المركزي الأوروبي صلاحيات كاملة للإشراف على كل بنك في الإتحاد الأوروبي. وقد وُجِد في نهاية المطاف حلٌّ وسط، وأعطي البنك سلطة إشراف على البنوك مع حيازات أكبر من 30 مليار يورو أو 20 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للدولة المضيفة لها. ولم يكن هذا حلاً وسطا طفيفاً. بقيت الجهات التنظيمية الوطنية مسؤولة عن الإشراف على البنوك الصغيرة — مثل “كاخاس” (cajas) في إسبانيا و”لانديسبنكن” (Landesbanken) في ألمانيا، والمؤسسات التي تتميّز بعلاقات قوية مع القوى السياسية المحلية – والموازنات العمومية المضطربة. وكانت اختبارات الإجهاد شرطاً مسبقاً لهذه المرحلة من عملية تنفيذ الإتحاد المصرفي.
فيما تنفيذ المرحلة الأولى لإنشاء الإتحاد المصرفي الأوروبي إقترب من نهايته مع إنتهاء العام 2014، فإن على الأوروبيين الآن إتخاذ قرارات سياسية صعبة بشأن المرحلة الثانية من المشروع. فقد وقّعت 26 دولة في الإتحاد الأوروبي (قررت بريطانيا والسويد عدم المشاركة) إتفاقاً حكومياً بينها في أيار (مايو) 2014 لإنشاء صندوق خاص ومجلس لصنع قرار مركزي لإنقاذ البنوك المتعثّرة. ووفقاً للإتفاق، سيتم إنشاء الصندوق على مدى ثماني سنوات حتى يصل إلى المستوى المستهدف له 1 في المئة على الأقل من حجم الودائع في كافة مؤسسات الإئتمان في جميع الدول الأعضاء المشاركة، والذي قدّر أن يكون حوالي 55 مليار يورو. وسيتضمن الصندوق في البداية مقصورات وطنية التي سوف تندمج تدريجاً في صندوق واحد. وقد وضع الإتفاق أيضاً رسمياً أسس “الإنقاذ” لخطط إنقاذ مستقبلية.
من ناحية أخرى، قال أعضاء في البرلمان الأوروبي أنه ينبغي أن يكون الصندوق أكبر لأنه قد لا يكون كافياً للتعامل مع أزمة مصرفية جديدة. وهناك أيضاً مسألة الكيفية التي سيتم بواسطتها تمويل صندوق القرار الواحد. في 21 تشرين الأول (أكتوبر) الفائت، إقترحت المفوضية الأوروبية بأن تساهم أكبر البنوك، التي تمثل نحو 85 في المئة من إجمالي الأصول، بحوالي 90 في المئة من الأموال. وقد إنتقد المعارضون هذا الإقتراح وقالوا أنه بدلاً من تعيين المساهمات بما يتناسب مع المخاطر التي يمثلها كل بنك، فإن الإقتراح يعيّن المساهمات بإستخدام إجمالي الأصول للبنك. والمجلس الأوروبي، الذي يمثّل الدول الأعضاء، ينبغي عليه التصديق على هذا الإقتراح.
الأهم من ذلك، من المقرر أن تبدأ عمليات نقل مساهمة البنوك في صندوق القرار الواحد في كانون الثاني (يناير) 2016. مع ذلك، وقبل أن يحدث هذا الأمر فإن برلمانات الدول الأعضاء سوف تضطر إلى التصديق على المعاهدة الحكومية التي تم توقيعها في أيار (مايو) الفائت، وهو أمر صعب في أعقاب إرتفاع شعبية الأحزاب المشكّكة بأوروبا (Euroskeptics). بالإضافة إلى ذلك، أعلنت مجموعة من الأساتذة الألمان بأنها ستطعن في الإتحاد المصرفي أمام المحكمة الدستورية الألمانية. ووفقاً لهذه المجموعة، فإن الإتحاد المصرفي يمثّل خطراً كبيراً لدافعي الضرائب الألمان فيما يترك برلين من دون أي سلطة رقابة. وهذه المجموعة هي عينها التي تتحدّى حالياً برنامج شراء السندات المالية (التيسير الكمي) الذي أطلقه البنك المركزي الأوروبي.

المشكلة الحقيقية

في حين أن إختبارات التحمّل ومراجعة جودة الأصول تقدّم رؤية أكثر وضوحاً عن البنوك في أوروبا، فإن معظم الأسر والشركات الأوروبية تواجه مشاكل أكثر إلحاحاً. في 27 تشرين الأول (أكتوبر)، كشف البنك المركزي الأوروبي أن القروض للقطاع الخاص إنخفضت بنسبة 1.2 في المئة في العام على أساس سنوي في أيلول (سبتمبر) بعد انكماش بنسبة 1.5 في المئة في آب (أغسطس) 2014. وتُظهر البيانات تباطؤ معدل الإنكماش في الإقراض لكنها لا تشير إلى إنتعاش قوي للإئتمان في منطقة اليورو. كما أكّدت البيانات أيضاً أن شروط الإئتمان لا تزال ضيّقة لا سيما في محيط منطقة اليورو.
ولمّا كان الإئتمان المصرفي أمراً بالغ الأهمية للأسر والشركات، فإن شروط الإئتمان ترتبط إرتباطاً وثيقاً بالإنتعاش الإقتصادي في أوروبا. وقد وافق البنك المركزي الأوروبي أخيراً على مجموعة من التدابير المحفّزة، بما في ذلك أسعار فائدة سلبية وقروض رخيصة للبنوك. ومع ذلك، فيما لا تزال البنوك تحاول تنظيف موازناتها العمومية، فإن الإقراض بقي خجولاً. حتى في تلك الحالات التي تكون فيها البنوك على إستعداد للإقراض، فإنها تميل إلى فرض شروط صارمة يصعب على العملاء تقبّلها. وهناك أيضاً مشكلة الطلب. مع ضعف النشاط الإقتصادي وإرتفاع معدلات البطالة في المحيط الأوروبي، فإن عدداً كبيراً من الأسر والشركات ببساطة لا يطلب أي إئتمان.
وأخيراً، خلقت أحدث سياسات البنك المركزي الأوروبي خلافاً كبيراً داخل المؤسسة نفسها. بعض أعضاء مجلس الحكم – وأبرزهم محافظ البنك المركزي الألماني (بانديسبنك) ينس ويدمان- يشعر بالقلق من التدابير التي يمكن أن تؤدي إلى تمويل الحكومات وإضعاف وتيرة الإصلاحات الإقتصادية. والألمان أيضاً قلقون إزاء شرعية التدابير، مثل التيسير الكمي، وتأثيرها المحتمل على التضخم.
إن الإحتكاكات الحالية داخل البنك المركزي الأوروبي تعكس في الواقع النقاش الواسع الذي يجري حالياً في أوروبا بين دول بقيادة ألمانيا التي تؤمن بأنه يجب أن تأتي الإصلاحات قبل حزم التحفيز، وتلك التي تقودها فرنسا التي تعتقد أن الأزمات ليست هي أفضل وقت لتطبيق تقشف عميق في الإنفاق. في الأسابيع والأشهر المقبلة، سيكون هذا النقاش أساسياً في تحديد مستقبل الإتحاد الأوروبي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى