التحلِّي بلبنان الدائم والتخلّي عن لبنان العائم
هنري زغيب*
بين الحاء والخاء، نقطة على الحرف. وبين التحلّي والتخلّي نقاطٌ على حروف الوطن.
تمامًا كما بين الدائم والعائم، حرفٌ واحد. وبين همزة الدائم وعين العائم حرفٌ واحدٌ تتغيَّر به النظرةُ إِلى لبنان.
يبقى على المواطن أَن يختار: أَيَّ لبنانٍ يريدُ الانتساب إِليه بين لبنان الدائم ولبنان العائم.
لبنان الدائم هو المتواصل في الزمان من أَول الزمان: حضاراتٍ تتالت عبر العصور، طبيعةً فريدةً في أَرضه جمالًا وفصولًا أَربعة تحلَوْلي خلالها سياحة الصيف والشتاء جبلًا وثلجًا وبحرًا ومناظرَ تشهق لها العين، آثارًا في مناطقه تتهاتف من عراقةٍ وتراث، تاريخًا في سجلِّ سنواته تواريخَ وأَسماءَ وإِشراقاتٍ بعضُها على صخور نهر الكلب، أَعلامًا خالدين في عصوره جيلًا بعد جيلٍ من هنا إِلى كل هناك في العالَـم…
لبنان العائم هو لبنان الـمُوَقَّت، أَي عناصرُهُ لها بدايةٌ ولها نهايةٌ مهما طالت. فمثلما الجسمُ العائمُ على وجه المياه، مهدَّد بالغرَق أَو بالتبدُّد أَو بالاختفاء لأَيِّ سببٍ طارئٍ أَو طبيعيٍّ، هكذا لبنانُ العائمُ: عناصرُهُ مُوَقَّتة ولو طال تَداوُلُها. فالرئاسة لها موعدُ بدايةٍ ونهاية، والوزارةُ كذلك ومثلُها النيابة، كما جميع الزعامات والمناصب والتشكيلات القبائلية والعشائرية، ومُدَدٍ زمنية خلالها يسيطر أَصحابُها على شعبهم أَو أَزلامهم أَو جماعاتهم، ثم يَغْرُبون إِلى النسيان بعد غياب معظمهم بأَيام.
لبنان الدائم ثابتٌ لا يتغيَّر مع أَيِّ عصر، محفورٌ في التاريخ، أَمسًا وراهنًا ومستقبلًا. قدَرُه الديمومةُ والتواصُل مع الآتي.
لبنان العائم متغيِّرٌ بتَغَيُّر الموجة التي تحملُه آنيًّا في حاضره. وتكوين الموجة أَنها عاليةٌ وأَرفعُ مما حولها، لذا يرى الناس إِليها وإِلى مَن عليها زبديِّين عالِين يلْفتون إِليهم النظر كأَنهم دائمُون حاكمُون متسلطُون مهيمِنون. لكنَّ في تكوين الموجة أَنها زائلةٌ مائلةٌ سائرةٌ إِلى الهبُوط من عُلُوِّها إِلى الامحاء تدريجيًّا والتكَسُّر عند الشاطئ، فيتفتَّت الزبد، ويَغرَق أُولئك الزبديُّون بين الحصى، ويبتلعُهم رملُ الشاطئ إِلى النسيان. وكلَّما علَت موجة جديدة، ركب متْنَها زَبَديُّون جُدُدٌ، مصيرهم محتوم كمَن سبَقُوهم وتَعَنْتَرُوا وتَدايَكُوا وتَسايَدُوا واشمخَرُّوا، لكنهم زَبديُّون تهبط بهم الموجة وينتهون إِلى رمل النسيان. هكذا أَهلُ السلطة، كلِّ سلطة، وهكذا أَهل الحُكْم، كلِّ حُكْم، وهكذا رجالُ الدولة، كلِّ دولة. جميعهم من أَهل لبنان العائم المتغيِّر مع تَغَيُّر زمنِ الموجة التي تحملُهم، مهما طال أَو استطال زمنُ الموجة.
أَما لبنان الدائم، فلا موجةَ فيه تعلو وتهبِط بمن عليها، لأَن أَهل لبنان الدائم هم المبدعون الذين وُلِدوا يومًا ويولَدون كل يوم ولو غابوا، فيظلُّون سائرين في الزمن، عالِين على الفناء، لا تُؤَثِّر في خلُودهم موجةٌ تعلو ولا موجة تهبِط، ولا يُؤَثِّر في سطوعهم حكْمٌ يأْتي أَو حكْم يَزول، ولا سلْطة تَجيْءُ أَو سلطةٌ تنقضي، ولا دولةٌ ذاتُ حدود ومقاييس لأَن إِشعاع المبدعين اللبنانيين يتخطَّى حدودَ لبنان الدولة الجغرافية إِلى فضاءَات لبنان الوطن الممتد إِلى كل العالَم.
صحيح أَن المواطنين العاديين محكُومون بأَهل السْلطة المتولِّين تسيير الدولة، لأَنهم مواطنو لبنان العائم، لكنَّ أَبناء النفوس الرؤْيوية الكبيرة تعلُو على العائم الـمُوَقَّت الـمتغيِّر، وترتفع إِلى لبنان الدائم الثابت الخالد الذي لا يتغيَّر، بل يَزداد خلودًا وثباتًا مع كلِّ عصرٍ جديد.
لذا أَختم بالسؤال الذي به بدأْتُ: على المواطن أَن يختار أَيَّ لبنان يريدُ الانتساب إِليه، بين خلود لبنان الدائم وزوالية لبنان العائم، وهنا معيار الكبار بين التجلّي والتخلّي.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib