السينما المصرية … من الإغراء إلى الحجاب!
عندما وصل الرئيس الإخواني محمد مرسي إلى رئاسة الجمهورية المصرية، بدأ أهل الفن هناك يبحثون عن “السترة” خوفاً من إنتشار ثقافة “الإخوان المسلمين” في المجال الفني. ولكن يبدو أن المشير عبد الفتاح السيسي قطع الطريق من أولها وأعلن حرباً شعواء على ذلك وطالب أهل الفن بالعودة إلى دورهم وممارسة حرياتهم. ولكن هل سيملك هؤلاء الشجاعة للعودة إلى عز السينما المصرية؟ أم أن المجتمع المصري لم يعد يتقبل ذلك؟
بيروت – جوزف قرداحي
تكاد تكون مصر البلد العربي الوحيد الذي يرتبط تاريخه الحديث بصناعة السينما، وبالتالي تكاد تكون القاهرة المدينة الأكثر إلتصاقاً بثقافتها السينمائية التي جعلت منها هوليوود العرب من دون منازع، إلى درجة أن الباحث في التاريخ الحديث لذلك البلد لن تعترضه أية معوقات، لسهولة المصادر ووفرتها في الأفلام المصرية التي تُعتبر الشاهد الأكثر دقة في مواكبة الأحداث التي عاشتها البلاد منذ العام 1896 أي منذ رأت السينما المصرية النور على يد شركة الإنتاج الفرنسية دار لوميير، بعدما أرسلت مبعوثاً لها إلى مصر ليقوم بتصوير مجموعة أفلام توثيقية قصيرة لبعض المناظر في الإسكندرية والقاهرة والمناطق الأثرية على النيل، وقد بلغ عدد هذه الأفلام حوالي 35 شريطاً تسجيلياً عرضت في جميع أنحاء العالم. وقد تم عرض تلك الأفلام في مدينة الإسكندرية في العام 1897 بواسطة جهاز عرض إستقدمته من فرنسا شركة لوميير للإنتاج السينمائي.
إقتصرت العروض السينمائية في مصر على الأفلام السياحية والمناظر الطبيعية حتى العام 1900 الذي شهد ولادة أول فيلم روائي صامت على يد الإيطالي فرانشيسكو بونفيلي وزوجته. وقد تم عرض الفيلم الصامت الذي أدهش المصريين في صالة مقهى “سانتي” في الأزبكية، الأمر الذي لفت الإنتباه إلى أهمية هذه الصناعة تجارياً، وما يمكن أن تدرّه من أرباح مادية هائلة.
مع مطلع العام 1905 بدأت ورشة بناء صالات العروض السينمائية تشهد إزدهاراً لا مثيل له، وفي عام واحد تم إفتتاح ثلاث صالات سينمائية شهدت إقبالاً جماهيرياً لا مثيل له، الأمر الذي شجّع كبار الرأسماليين الأجانب في مصر على تأسيس شركات متخصّصة لإنتاج الأفلام، مثل شركة عزر ودوريس في الأسكندرية التي باشرت في العام 1907 بإنتاج أول فيلم مصري جرى تحميضه وطباعته في معاملها المستقدمة من إيطاليا وفرنسا.
لعب الإيطاليون المقيمون في مصر دوراً أساسياً في صناعة السينما المصرية، وقد خاض المصور أمبرتو دوريس بالإشتراك مع بعض الإيطاليين مغامرة إنتاج الأفلام الروائية الباهظة الكلفة، وأنتج في العام 1918 فيلمين روائيين قصيرين بتمويل من “بنك روما” هما “الزهور المميتة” و”شرف البدوي”. غير أن المردود التجاري للفيلمين اللذين عُرضا في صالة سينما “سانت كلير” في القاهرة لم يكن بحجم الآمال المعقودة عليهما لإفتقارهما إلى نكهة البيئة المصرية. ما جعل المخرج لارتشي يتّعظ من الخطأ الذي وقع فيه ويعمل على تصويبه في فيلم آخر أنتجه في العام عينه تحت عنوان: “مدام لوريتا” لعبته فرقة مصرية مؤلفة من الأب فوزي الجزايرلي وإبنته إحسان التي أدت الشخصية الرئيسية وإبنه فؤاد. الجدير ذكره أن فرقة فوزي الجزايرلي التي تأسست في العام 1917 كانت قد إكتشفت الفنان محمد عبد الوهاب وضمته إليها حيث لعب في الكثير من مسرحياتها التي إستمد منها خبرة الوقوف على المسرح ومواجهة الأضواء.
أدرك كبار رجال الأعمال وفي طليعتهم طلعت حرب أهمية الصناعة في مصر، وفي مقدمها صناعة السينما، فعمل على تمويلها وتحويلها إلى صناعة قومية تضخ الأموال، ووضع خطة لإنشاء “إستوديو مصر” الذي تم تدشينه في العام 1934، وكان واحداً من أكبر وأهم شركات الإنتاج التي أحدثت نقلة نوعية كبيرة في عالم السينما، حيث إنطلقت عجلة إنتاج الأفلام المصرية بشكل هائل، وكثر عدد المشتغلين في هذا الحقل الجديد. ويعتبر “إستوديو مصر” المدرسة الأولى التي تخرَّج منها كافة العاملين في الحقل السينمائي. كما أرسى قواعد العمل في الفن السابع، ومثل مرحلة تطور مهمة في تاريخ صناعة السينما جعلتها تنتقل من أيدي الأجانب إلى أيدي المصريين.
بعد الحرب العالمية الثانية تضاعف عدد الأفلام المصرية من 16 فيلماً عام 1944 إلى 67 فيلماً عام 1946، ولمع في هذه الفترة عدد من المخرجين مثل أحمد بدرخان، وهنري بركات، وحسن الإمام، وإبراهيم عمارة، وأحمد كامل مرسي، وحلمي رفلة، وكمال الشيخ، وحسن الصيفي، وصلاح أبو سيف، وكامل التلمساني، وعز الدين ذو الفقار، كذلك عميد السينما المصرية يوسف وهبي، صاحب المقولة الشهيرة: “شرف البنت زي عود الكبريت، ما يولعش غير مرة واحدة”، وأنور وجدى الذي قدم سلسلة من الأفلام الإستعراضية الناجحة، وأيضاً فنانات وفنانين مثل ليلى مراد، وشادية، وفاتن حمامة، وماجدة الصباحي، ومريم فخر الدين، وتحية كاريوكا، ونادية لطفى، وهند رستم، وعمر الشريف، ويحيى شاهين، وإستفان روستي، وفريد شوقي، وأحمد رمزي، وصلاح ذو الفقار، ومحمود المليجي.
حتى ذلك التاريخ، حافظت السينما المصرية على رومانسيتها، ولم تقارب مشاهد الحب الحميمة إلا إيحاء على الرغم من إنفتاحها في ذلك الوقت على الثقافات الغربية، ولا سيما أن الإحتلال الإنكليزي في عهد الملك فاروق الأول (1936- 1952)، وعلى الرغم من مناوأة الشارع المصري له، إلا أنه ساهم في شكل أساسي في إنفتاح المجتمع المحافظ على الغرب، ومحاولته التماهي مع الكثير من عادات وتقاليد الأوروبيين، فكانت المرأة المصرية تنافس المرأة الباريسية في أناقتها وتحررها، وكانت واجهات محلات الأزياء في الأسواق التجارية الكبرى تستورد من أيطاليا ولندن آخر صيحات الموضة.
هذا التحرر الإجتماعي، إنعكس في شكل مباشر على السينما المصرية التي عرفت عصرها الذهبي مع نجمات تخلّين عن “عود الكبريت” الإجتماعي الذي نادى به يوسف وهبي طويلاً، وتحوّلن إلى رموز للإغراء والإثارة والجنس في الأفلام المصرية، نافسن اهم نجمات هوليوود إلى درجة أن بعضهن إنتزع الألقاب منهن، مثل هند رستم التي لُقِّبت بمارلين مونرو الشاشة المصرية، وشمس البارودي التي قلبت كل مقاييس الأفلام الساخنة في “حمام الملاطيلي”، وناديا لطفي التي تخطت الأرقام القياسية في مشاهد القبل الحميمة مع عبد الحليم حافظ في”أبي فوق الشجرة”.
قبل هند رستم وشمس البارودي وناديا لطفي ومريم فخر الدين، لم يكن الإغراء فالتاً من عقاله على ما يقول المثل في فترة الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي. وإنما كان ينطوي على شيء من الخفر وإن لامس جرأة الظهور والأداء مع سامية جمال وتحية كاريوكا ونعيمة عاكف، اللواتي على الرغم من كسرهن “تابوهات” ومحرمات المجتمع الشرقي المحافظ، إلا أنهن حافظن على مزيج جمع دلال الأنوثة وشيطان الإغراء بملاك الخجل. لتنقلب الصورة الرومانسية للإغراء مع ولادة نجمات باهرات الجمال والإثارة من قماشة هند رستم التي أسست نهجاً مختلفاً في الإغراء، تأثرت به معظم الفنانات اللواتي جئن من بعدها، مثل سعاد حسني وناديا الجندي ونيللي وشريهان وغيرهن.
مع الإطاحة بحكم الملك فاروق في العام 1952 على يد الضباط الأحرار، ومن ثم صعود نجم أحد الضباط الأحرار الأكثر كاريزماتية جمال عبد الناصر الذي خلف محمد نجيب في العام 1954 بعد وضعه في الإقامة الجبرية، أصبحت السينما المصرية ذات منحى ثوري إيديولوجي، متأثرة بفكر ونهج قائد الثورة عبد الناصر الذي أحدث تغييراً جذرياً في الحياة الإجتماعية، فألغى الطبقية التي كانت سائدة في عهد الملك، وأَمَّم الأراضي والشركات الخاصة، ونقل الفلاحين من أجراء عند الإقطاعيين إلى مالكي أراضي يستثمرونها ويعيشون من خيراتها. هذه النقلة النوعية التي رسّخها عبد الناصر زادت من ثورية المجتمع وتحرّره، ولا سيما أمام خطر ظهور تيار إسلامي متشدد حاربه عبد الناصر بكل قواه هو تيار “الإخوان المسلمين” الذي حاول الهيمنة على الحالة الشعبية والطبقات الفقيرة والإنقلاب على ثورة الضباط الأحرار والتآمر على النظام. فترجمت السينما المصرية مناهضتها لفكر ونهج “الإخوان” السلفي، بالمبالغة والمغالاة في مقاربة الجنس والإثارة، فكان التنافس على أشده بين نجمات شباك التذاكر، اللواتي قدمن أفضل مواهبهن في مشاهد العري والقبل والإيحاءات الجنسية المباشرة.
عاشت السينما المصرية في الفترة الممتدة ما بين منتصف ستينات حتى نهاية سبعينات القرن الفائت عصرها الذهبي مع نجمات لم يتورّعن عن التخلي عن آخر قطعة من ملابسهن التي تغطي أجسادهن البضة، فجاهرت ناهد شريف بالظهور عارية الصدر تماماً (ذئاب لا تأكل اللحم)، وناهد يسري تخلت حتى عن ملابسها الداخلية التي تغطى آخر جزء حميم من جسدها (سيدة الأقمار السوداء)، وسعاد حسني جمعت ما بين الدلع والإثارة والجمال، فتربعت على عرش السينما المصرية من دون منازع، ولعل أهم أفلامها “خللي بالك من زوزو” الذي لعب سنة متواصلة في الصالات شاهد على ذلك.
عرفت فترة سبعينات القرن العشرين أيضاً تنافساً منقطع النظير ما بين نجمتين تقاسمتا شباك التذاكر طويلاً هما ميرفت أمين ونجلاء فتحي، فقدمتا أدواراً جريئة ولكن ذات طابع إجتماعي هادف (أنف وثلاث عيون) (دمي دموعي وابتسامتي) (ثرثرة فوق النيل) وغيرها. وكان القاسم المشترك بينهما محمود ياسين وحسين فهمي، فإستخدمهما المخرجون رمزين متناقضين للرجل المصري الآتي من بيئتين، إحداهما فلاحية شعبية (محمود ياسين)، والأخرى أرستوقراطية تنتمي إلى المجتمع الوافد إلى مصر (حسين فهمي). وهو ما يعكس الصراع الطبقي العنصري الذي حاول الرئيس أنور السادات محاربته، وتكريس مجتمع يندمج مع الغرب، وذلك أيضاً من باب مناهضة الأصولية “الإخوانية” التي حاولت زعزعة عهده طويلاً، وإنتهت إلى إغتياله في العام 1981 على خلفية ظاهرها توقيع إتفاقية كامب ديفيد في العام 1979، ولكن باطنها كان انتقاماً لإعتقاله كوادر وعناصر من التنظيم الأصولي.
وإذا كانت فترة ستينات القرن الفائت عرفت فتوّة فريد شوقي و”دونجوانية” رشدي أباظة اللذين جسدا رمز الرجل الذي تقع في حبائله النساء، الأول لفتوته وتجسيده شخصية إبن البلد (فريد شوقي)، والأخير لارستوقراطيته وخلفيته الإجتماعية الثرية (رشدي أباظة)، فإن حسين فهمي ومحمود ياسين جاءا ليكملا نموذجي الفلاح والأرستوقراطي، ولكن بأسلوب أكثر عصرية، وبعيداً من العضلات، وإن جمعت النجوم الاربعة المشاهد الحميمة في فراش أجمل سيدات الشاشة المصرية.
ثورة التحرر الجنسي في السينما المصرية التي تزامنت مع ظاهرة “الهيبيز” في العالم، لم تستمر طويلاً، إذ أنه مع بداية منتصف ثمانينات القرن المنصرم، بدأ المجتمع المصري يشهد تحوّلاً وميولاً لدى شرائح واسعة من السكان للعودة الى التقاليد القديمة والإلتزام الديني والإحتشام وبداية سماع أصوات علنية تدعو المرأة الى الحجاب. وبالفعل، فقد أحدثت تلك الدعوات حالة من القلق والذعر في الأوساط الفنية، وشهدت تلك المرحلة إقبالاً غير مسبوق على إلتزام الحجاب من فنانات كن رمزاً للإغراء والإباحية ، وكانت أول المستجيبات لتلك الدعوات شمس البارودي التي أعلنت إعتزالها بعدما وضعت الحجاب، لتكر السبحة من بعدها بشكل مضطرد، وتعلن مجموعة من فنانات مصر إلتزامهن الحجاب، ومن بينهن سهير رمزي، سهير البابلي، شادية، شهيرة محمود ياسين، وأخيراً من الجيل الجديد حنان ترك وهلا شيحا وصابرين.
الردة الإسلامية التي تأثرت بها فنانات مصر، إنعكست على حركة السينما التي بدأت تعاني ركوداً مخيفاً، الأمر الذي أجبر المنتجين على الإتجاه نحو الأفلام المسطّحة والخالية من أي مضمون قد يعتبره الجمهور المحافظ منفراً وخادشاً للحياء. إلى أن جاءت نبيلة عبيد ومعها مجموعة من الفنانات المغامرات مثل ناديا الجندي وإلهام شاهين ليفتتحن موسماً من الأفلام الجريئة، ولكن من النوع الذي يعالج قضايا إجتماعية عميقة، مثل “قضية سميحة بدران”، و”توت توت”، و”كشف المستور” وملف سامية شعراوي” و”الإرهاب” و”الرغبة” و”سوق المتعة” . الأمر الذي خلق في المقابل مجموعة متحفّظة من الفنانات مسايرة للمجتمع المصري المتحوّل الى “الأسلمة الأصولية”، مثل منى زكي، غادة عادل، ياسمين عبد العزيز وغيرهن من الجيل الجديد، الذي لم يستطع أن يعيد أمجاد السينما المصرية الى سابق عهدها، على الرغم من محاولات جريئة قامت بها المخرجة إيناس الدغيدي، التي انتجت وأخرجت مجموعة من الأفلام الجريئة أثارت موجة عارمة من الإنتقادات، نتيجة طرحها مسألة الجنس بشكل مباشر وبعيداً من الأقنعة الإجتماعية المحافظة، مثل “دانتيلا” و”كلام الليل” “ومذكرات مراهقة”، “إمرأة آيلة للسقوط”، “لحم رخيص” و”الباحثات عن الحرية”، ولا سيما أنها فضحت زيف المجتمع المصري الذي يعيش على تناقض ما بين العفة الظاهرة في الملابس، والأباحية المتفشية بشكل صارخ حتى في أرجاء أكثر المؤسسات التي تدعو الى الفضيلة. ولا ننسَ أيضاً محاولات خالد يوسف في صناعة أفلام من رونق أستاذه المخرج العالمي يوسف شاهين، فقدّم للسينما المصرية أفلاماً أثارت جدلاً واسعاً ولكنها لم تلقَ الترحيب الجماهيري المتوقع لها، مثل: “خيانة مشروعة” و”حين ميسرة” “دكان شحاته”، فقدم إلى الشاشة وجوهاً جديدة خاضت تجربة التمثيل للمرة الأولى، مثل: سمية خشاب وغادة عبد الرازق وعلا غانم وهيفا وهبي وغيرهن، فأخرج منهن ذروة مواهبهن الساخنة خدمة لقضاياه، الأمر الذي قولب شخصياتهن في إطار لا يستطيع التحرر من قالب الجنس والإغراء إلا بمجهود ومعجزة.
بإختصار العصر الذهبي للسينما المصرية الذي عاشته في ماضيها وتخسره في حاضرها، ما هو سوى إنعكاس لمجتمع كلما تطور العصر من حوله غرق في التاريخ، إلى درجة يُخشى معها ألا يجد حضارة أجداده الفراعنة الذين حكموا العالم في غابر الزمان، بل الخوف كل الخوف أن يغرق في مزيد من الظلام، ليفقد أجمل وميض سينمائي شعّ على العالم العربي من دون منازع ذات يوم.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.