ثائرٌ أم قاتلٌ مأجور؟

مايكل يونغ*

انتهيتُ أخيرًا من قراءة سيرة جون فولان عن إيليتش راميريز سانشيز، المعروف أكثر باسم كارلوس الثعلب. في البداية، كنتُ مهتمًّا بمعرفة كيف تندرج مسيرته ضمن السياسة الفلسطينية خلال السبعينيات، عندما أصبح كارلوس لأول مرة “ثائرًا محترفًا”، بحسب وصفه لنفسه في محاكمته في فرنسا في العام 1997. لقد اشتهر كارلوس أول مرة في كانون الأول (ديسمبر) 1974، عندما اقتحم مع شركاءٍ له مقرّ منظمة الدول المصدّرة للنفط (أوبك) في فيينا، واحتجز عددًا كبيرًا من وزراء النفط كرهائن.

ورُغمَ أنَّ فولان أشار إلى صلات كارلوس الفلسطينية، إلّا أنه لم يتعمّق كثيرًا في تفاصيل السياسة الداخلية الفلسطينية. فقد جُنِّدَ كارلوس من قبل بسام أبو شريف بالنيابة عن وديع حداد من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. ومع ذلك، فإنَّ مساره بعد عملية احتجاز الرهائن في فيينا اتخذ اتجاهًا آخر. كانت العملية التي خطّطَ لها حداد تهدف إلى تأمين أموالٍ للجبهة، لكن كارلوس تلقى أيضًا أمرًا بقتل وزيري النفط السعودي والإيراني. إلّا أنه عفا عنهما، ويبدو أنه خبّأ الفدية في الجزائر “لنفسه، لا للجماعة”، وفقًا لهانس يواخيم كلاين، أحد المشاركين في العملية.

عندما التقى كارلوس بحداد في جنوب اليمن لمراجعة ما جرى، وَبّخه القائد الفلسطيني. يُقال إن حداد قال له: “النجوم سيئون جدًا في اتباع التعليمات. أنت لم تتبع أوامري. لا مكانَ للنجوم في فِرَقي العملياتية. يمكنك أن ترحل”. لكن السؤال الأوسع هنا: ما الغاية التي حققتها تلك الفترة من عمليات الخطف والأعمال المماثلة؟ حتى في ذلك الوقت، كان هناك جدلٌ داخل القيادة الفلسطينية حول جدوى هذه العمليات العنيفة ذات الطابع الدعائي، من بينها خطف الجبهة الشعبية لأربع طائرات إلى الأردن في أيلول (سبتمبر) 1970، أو عملية احتجاز الرهائن الإسرائيليين في دورة الألعاب الأولمبية في ميونيخ التي نفذتها مجموعة “أيلول الأسود” في أيلول (سبتمبر) 1972. ومع ذلك، فإنَّ قادةً فلسطينيين بارزين شاركوا أيضًا في التحضير لهذه العمليات، كما أوضح محمد داوود عودة، المعروف باسم أبو داوود، مخطط عملية ميونيخ، في مذكراته المنشورة في العام 1999.

على المستوى الشخصي، بينما كنت أقرأ السيرة، خطرَ لي أنني تلاقيتُ مع هذا العالم الغامض على مستوياتٍ عدة. ففي العامين 1984و1985، حين كنت طالبًا في الجامعة الأميركية في بيروت، كان أحد أصدقائي المُقرَّبين شابًا يُدعى هاني، الذي كان يَذكُرُ لي أحيانًا الفترة التي قضاها مراهقًا في بغداد وبرلين الشرقية. بدا أنه يمتلك معرفة واسعة بالشرق الأوسط، وسألني مرة إن كنتُ قد سمعتُ عن حركة القوميين العرب. في ذلك الوقت، كنتُ محدودَ الوعي بالمنطقة فلم أُدرِك مع مَن كنتُ أتحدّث. ولم أدرك إلّا لاحقًا أنه ابن وديع حداد، وأنَّ والده كان أحد مؤسِّسي الحركة، فضلًا عن كونه رئيس العمليات الخارجية في الجبهة الشعبية وقائد كارلوس سابقًا.

رأيتُ هاني مرة واحدة بعد نهاية الحرب الأهلية اللبنانية، حين التقينا مصادفة في مطعم بوسط بيروت. وبعد سنوات، علمتُ أنه توفي باكرًا جدًا إثر نوبة قلبية. وكان ندمي الأكبر أننا لم نُعد وصل صداقتنا من أيام الجامعة، فقد كان شخصًا مثيرًا دائمًا للاهتمام للتحاور معه. وكان يمكنني أيضًا أن أروي له شيئًا مثيرًا من جانبي.

كان بوسعي أن أذكرَ أنه عندما خطف رجال حداد طائرة تابعة للخطوط الجوية الفرنسية إلى عنتيبي في أوغندا في حزيران (يونيو) 1976، للمطالبة بإطلاق سراح أسرى لدى إسرائيل، كان قائد الطائرة ميشال باخوس، ابن خال والدتي. وقد رفض وطاقمه مغادرة الطائرة وترك الركاب اليهود عندما سمح لهم الخاطفون بالرحيل. ولم يَذكُر كثيرًا أنه كان ابنًا لأبٍ لبناني نشأ في مصر. عززت الغارة الإسرائيلية الناجحة لتحرير الرهائن أسطورة “الجيش الذي لا يُقهر”، لكنها أيضًا دفعت بمسيرة بنيامين نتنياهو السياسية، وهو اليوم مرتكب المجازر في غزة، بعدما قُتِلَ شقيقه يوناتان وهو يقود وحدة الكوماندوز في العملية.

كانت هناك دومًا روابط أخرى تُبقي الواقع الفلسطيني قريبًا منّا. فوالدة وأخت علي حسن سلامة، الذي عُدَّ لفترةٍ طويلة العقل المدبر لعملية ميونيخ التي أسفرت عن مقتل عدد من الرياضيين الإسرائيليين، كانتا جارتَينا في بيروت. وقد نفى أبو داوود أن تكون لسلامة أي علاقة بميونيخ، لكن ذلك لم يمنع الإسرائيليين من اغتياله بسيارة مفخخة في 22 كانون الثاني (يناير) 1979، وبشكلٍ ساخر على مقربة من مدرسة الروضة التي أسّسها شقيق وديع حداد. وكانت والدتي تزور والدة سلامة كثيرًا، وفي صيف 1982، عندما احتلت القوات الإسرائيلية حيّنا، كنت أتساءل كيف شعرت وهي ترى قتلة ابنها يجلسون تحت نافذتها مباشرة.

ومن المثير للاهتمام أنَّ سلامة قُتل أيضًا على بُعد مئة متر من المكان الذي اغتيل فيه ثلاثة قادة فلسطينيين على أيدي الإسرائيليين في نيسان (أبريل) 1973، اثنان منهم في المبنى نفسه الذي كان يسكنه أقرب أصدقائي حينها. وقد وصف لي هو وإخوته ما سمعوه تلك الليلة، وضحكنا مطوَّلًا عندما رووا أن البوّاب – الذي كان رجلًا سيئ الطباع وكان يزعجنا دائمًا– استيقظ برأس متورّم بعدما ضربه الإسرائيليون عند اقتحامهم المبنى.

كان ذلك هو عالم “الثورة الفلسطينية”، لكنه كان أيضًا عالمنا وعالم كثيرين آخرين في بيروت في ذلك الوقت. انهار كل شيء في صيف 1982 عندما غزت القوات الإسرائيلية لبنان. ومع ذلك، كانت التصدّعات قد بدأت منذ نيسان (أبريل) 1975، عندما سمح الفلسطينيون لأنفسهم بالانجرار إلى الحرب الأهلية اللبنانية. أدت انتصاراتهم الأولى إلى دخول الجيش السوري في العام 1976 لمنع انتصارٍ فلسطيني قد يستدعي تدخّلًا إسرائيليًا ويؤدي إلى صدام سوري–إسرائيلي. وبعد “كامب ديفيد”، تصالح الفلسطينيون مع السوريين، لكن سوريا أصبحت صاحبة القول الفصل في الشأن الفلسطيني، حتى خروج الفصائل من بيروت الغربية في أيلول (سبتمبر) 1982.

لقد عشتُ الحصار الإسرائيلي المؤدّي إلى تلك النتيجة، ورأيتُ مدى خسارة الفلسطينيين لرصيدهم لدى السكان السنّة في بيروت الغربية، الذين دعموا قضيتهم في السابق. كنا جالسين في ملجَإٍ خلال يوم قصف إسرائيلي عنيف، في صمتٍ تام ومن دون ضوء، عندما صاحت امرأة مذعورة بالمسلحين الفلسطينيين بيننا: “غادروا، يجب أن ترحلوا [عن بيروت.”  لكن بدلًا من أن يغضب أحدهم، ردّ أحد المقاتلين: “نريدُ أن نرحل، لكنهم [الإسرائيليون] لا يسمحون لنا”. كان مشهدًا بائسًا جعلنا أكثر وعيًا بعبثية ما كنا نعيشه. هل كنّا نخاطر بحياتنا من أجل هذا؟

أبرزَ هذا التبادلُ فقرَ المرحلة الفلسطينية في لبنان. ماذا أنجزت عمليات الخطف إلى الأردن أو عنتيبي أو الصومال في سبيل تحرير فلسطين؟ أو إطلاق النار على مدنيين في مطار اللد في أيار (مايو) 1972؟ مجرّد استجداء بالمغادرة من قبو مبنى يحترق؟ قد يقول البعض إنَّ مثل هذه العمليات جلبت مأساة الفلسطينيين إلى صدارة الاهتمام العالمي. ربما، لكن بالتأكيد بأكثر الطرق ضررًا، لأنها ألصقت بقضية عادلة وصمة “الإرهاب” التي لم تفارقها أبدًا، حتى عندما ارتكب الإسرائيليون أبشع الجرائم، كما يفعلون اليوم في غزة.

ربما كان كارلوس، الانتهازي البارز، قد أدرك ذلك كله. لم يجعله واقعيًا أقل رغبة في استخدام العنف، لكن عنفه أصبح موجّهًا بدرجة كبيرة نحو مصالح شخصية. كانت فيينا بلا شك المؤشر الأول إلى ميوله هذه، لكن بحلول أواخر السبعينيات قادته غرائزه إلى تأسيس مجموعة صغيرة من الأتباع الذين تحولوا عمليًا إلى مرتزقة لدى أيِّ نظام عربي يدفع لهم. وقد كتب فولان أنَّ وفاة وديع حداد في العام 1978، على الأرجح بيد الإسرائيليين، “أزالت [عن كارلوس] منافسًا قويًا على ودّ الأنظمة الشرق أوسطية”، فانضم عدد من رجال حداد إلى التنظيم الجديد، الذي حمل اسمًا رنّانًا هو “منظمة الكفاح المسلح العربي”.

كان مسار كارلوس مسارًا طبيعيًا لشخص شهد مسار الوجود الفلسطيني في بيروت. فلو أن “الثورة” الفلسطينية لم تصبح دار مزاد للمصالح والتنافسات الإقليمية، بعيدًا من معاناة سكان الضفة الغربية وغزة، لما كان هناك ما يدعو كارلوس إلى اتخاذ اتجاه مختلف. لكن في السنوات التالية، أصبح سامًا وهو يزرع القنابل في فرنسا مطالبًا بإطلاق سراح زوجته ماجدالينا كوب ورفيقه برونو بريغيه. ومع نهاية الحرب الباردة وإعادة تشكيل العلاقات الدولية، بدأت الدول التي استقبلته ترفضه. وفي النهاية وجد نفسه في السودان، حيث اختطفه عملاء فرنسيون في آب (أغسطس) 1994 وأعادوه إلى باريس، ليُحاكم بتهمة قتل ثلاثة من عناصر الاستخبارات الفرنسية الداخلية في حزيران (يونيو) 1975. وقد حُكم عليه بالسجن المؤبد في العام 1997، وما زال حتى اليوم يقبع في سجن بواسي.

لم يجد نضال الفلسطينيين مساره الحقيقي إلّا مع اندلاع الانتفاضة الأولى في كانون الأول (ديسمبر) 1987، الهادفة إلى تأكيد حقوقهم وحريتهم في أرضهم. أنقذت هذه العودة إلى الأرض الفلسطينيين من بريق المنفى الزائف، مما أجبر الإسرائيليين على كشف نواياهم تُجاهَ شعبٍ طهروه عرقيًا وهجّروه في العام 1948. ولا يزال مصير الفلسطينيين في إقامة دولة مسألة تخمين وموضع تكهُّن، مع إصرار الإسرائيليين والأميركيين على حرمانهم من حق تقرير المصير. لكن اليوم، على الأقل، يبدو الطريق الفلسطيني واضحًا نسبيًا، ومختلفًا تمامًا عن ذاك الذي رسمه أمثال كارلوس.

  • مايكل يونغ هو مُحرّرٌ كبير في مركز مالكولم كير كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، حيثُ يرأس تحرير مدوّنة “ديوان” التابعة للمركز. وهو كاتب رأي في الشؤون اللبنانية في صحيفة ذا ناشيونال، ومؤلف كتاب “أشباح ساحة الشهداء: رواية شاهد عيان عن كفاح لبنان في الحياة” (دار سايمون وشوستر، 2010)، الذي اختارته صحيفة وول ستريت جورنال كواحد من الكتب العشرة البارزة لعام 2010. يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @BeirutCalling
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى