لحظَةُ الصين في المغرب العربي
كابي طبراني*
تتبدّلُ مَلامِحُ خريطة النفوذ في المغرب العربي بوتيرةٍ لافتة، حبث باتت الصين اليوم جُزءًا ثابتًا ولاعبًا لا يُمكِنُ تجاهله في المعادلة السياسية والاقتصادية في المنطقة. غير أنّ فَهمَ حجم هذا التحوّل لا يَكتَمِلُ إلّا بمُقارنةِ ما نشهده اليوم بما وثّقته التحليلات وما كانت عليه الصورة قبل عامين فقط. ففي 2023، ظهرت الصين كقوّةٍ صاعدة تُحقّقُ حضورًا مؤثّرًا، لكنه حضورٌ لم يكن قد ترسّخَ بعد: تجارةٌ مُتنامية لكنها غير مُتكافئة، ومشاريع بُنية تحتية ضخمة لا تعكسُ استثمارًا استراتيجيًا طويل الأمد. أما اليوم، وبعد موجةٍ من الاتفاقات الواسعة والشراكات مُتعدِّدة المستويات، باتت بكين أكثر ثقةً وتمركُزًا، والأهم أنها باتت تتحرّكُ وفقَ رؤيةٍ واضحة تستهدفُ إعادةَ تشكيلِ ميزان القوى نحو عالمٍ مُتعدّد الأقطاب.
في العام 2023، لم يكن النفوذ الصيني في المغرب العربي مُتقدِّمًا بقدرِ ما كان مُثيرًا للانتباه. كانت الصين الشريك التجاري الأول لبعض دول المنطقة، لكنها أبقت استثماراتها في حَدّها الأدنى. توسّعت الشركات الصينية في مشاريع “تسليم المفتاح” من دون أن تنقلَ التكنولوجيا أو تخلقَ قيمةً محلّية كبيرة. أما التجارة فواصلت إعادة إنتاج علاقة “المركز والهامش”: سلعٌ صناعية عالية القيمة في اتجاه المغرب العربي، وموادٌ خام وطاقةٌ في اتجاه الصين. وبينما رَحّبَ المُستهلك المغاربي بالأسعار الصينية المُنخَفِضة، ظلّ المُنتِجُ المحلّي عاجزًا أمامَ المنافسة، وارتفعت المخاوف بشأن التَبَعِيَّة والاختلالات الهيكلية.
لكنَّ المشهدَ الذي ترسمه التطوّرات الأخيرة مُختلفٌ تمامًا. باتت الصين اليوم لاعبًا مركزيًّا في معادلة المغرب العربي، لا مجرّد بديلٍ من شركاءٍ غربيين تقليديين. حُضورُها لم يَعُد تجاريًّا فحسب، بل سياسيًّا وأمنيًّا واستراتيجيًّا، مُرتَبطًا بعُمقٍ برؤيتها لإعادةِ تشكيلِ شبكات النفوذ العالمية.
يَتَّضِحُ هذا التحوُّلُ بجلاءٍ في الجزائر، الدولة التي تحوّلت من “شريكٍ تاريخي” للصين إلى “محورٍ إستراتيجي” في حسابات بكين. فقد ارتفعَ مستوى التعاون إلى مستوياتٍ غير مَسبوقة: استثماراتٌ تتجاوزُ عشرات المليارات، مشاريع بُنى تحتيّة نوعية، توسيعٌ كبير للتعاون في الطاقة التقليدية والمُتجدّدة، وشراكةٌ عسكرية مُتنامية تشملُ تكنولوجيا الطائرات المُسَيَّرة وأنظمة الدفاع. ما بدأ كعلاقةٍ سياسية متينة تحوّلَ إلى شراكةٍ مُتعدِّدة الأبعاد، تجعلُ الجزائر اليوم القاعدة الأكثر رسوخًا للنفوذ الصيني غرب المتوسط.
المغرب، من جهته، يسلكُ مَسارًا مُغايرًا لكنه لا يقل أهمية. ففي 2023، كان التعاون مع الصين يتقدّمُ ببطء، مُثقَلًا ببعض التعثّرات في مشاريع كبرى. اليوم، تَغيّرَ الإيقاع: منطقة “طنجة تيك” (طنجة التكنولوجية) عادت إلى الحياة، شركاتٌ صينية أصبحت جُزءًا من قطاع السيارات المزدهر في البلاد، ومشاريعٌ في الطاقات المُتجدّدة والسكك الحديدية السريعة تُوَسِّعُ الدورَ الصيني. هذا التقدّم يأتي ضمن إطارٍ سياسيٍّ محسوب: المغرب يوازن بين حلفائه التقليديين في الغرب وشراكاته الجديدة مع الصين، مُستفيدًا من حياد بكين في ملف الصحراء الغربية، وهو حيادٌ يسمح للصين بالحفاظ على علاقاتٍ مُستقرّة مع الرباط والجزائر في آنٍ واحد.
تونس تقدّمُ حالةً ثالثة: انفتاحٌ سياسي مُتزايد على الصين في مقابل محدوديةٍ اقتصادية مستمرّة. توقيع “الشراكة الإستراتيجية” مع بكين يعكسُ إرادةً سياسية، لكنَّ الواقعَ الاقتصادي—الفوضى المالية، هشاشة البيئة الاستثمارية، واعتماد تونس على التكنولوجيا الأوروبية—يضعُ سقفًا لهذا التعاون. ومع ذلك، تدخلُ الصين تدريجًا عبر مشاريع البنية التحتية، والتعليم، والاتصالات، وربما ترى في تونس منصّةً مستقبلية للأسواق الأوروبية والأفريقية إذا استقرَّ الوضعُ الداخلي.
أما ليبيا، فتُمثّل الاختبارَ الأكثر حساسية. ففي 2023، كانت الحالةُ الليبية دليلًا على حدودِ سياسةِ “عدم التدخُّل” الصينية، بعدما اضطرّت بكين إلى إجلاءِ عشرات الآلاف من مواطنيها وتعليقِ مشاريع ضخمة خلال الحرب. أما اليوم، فالصورة مختلفة. فقد عادت الصين إلى ليبيا من خلال ديبلوماسيةٍ مُتأنّية ومُتوازية، حيث تواصلت مع كلٍّ من حكومة طرابلس وإدارة خليفة حفتر في شرق البلاد، تاركةً مساحةً للاستثمارات المستقبلية بمجرّد استقرار الوضع السياسي. وتُعَدُّ الشراكة الاستراتيجية الجديدة المُوقّعة في العام الفائت بين البلدين، واستئناف المناقشات حول التعاون في مجال البنية التحتية والنفط، مُؤشِّرَين على أنَّ بكين لا تنظرُ إلى ليبيا كمخاطرة، بل كغنيمةٍ مستقبلية تستحقُّ الانتظار.
هذه التطوُّرات مُجتمعةً تكشفُ عن تحوُّلٍ نوعي في المقاربة الصينية. لم تَعُد بكين تكتفي بدورِ المُوَرِّدِ أو المُقاوِل، بل أصبحت جُزءًا من حساباتِ الأمن الإقليمي، ومن مشاريع التحوُّل الاقتصادي، ومن صراعِ النفوذ بين القوى التقليدية والصاعدة في شمال أفريقيا. وهي تفعل ذلك عبر أدواتها المعروفة: الحيادُ السياسي، العروضُ الاقتصادية المُغرِية، غيابُ الشروط السياسية، والقدرةُ على العمل مع أنظمةٍ مُختلفة التوجُّهات.
ورُغمَ هذا التقدّم، تبقى المفارقة التي ظهرت في تحليلات 2023 قائمة حتى اليوم: الصين تتعمّقُ في المنطقة بسهولة لأنها لا تُواجِهُ كتلةً مغاربية مُوَحَّدة. التعامُلُ الثُنائي يمنحها قدرةً تفاوضية تفوق بكثير ما يُمكنُ أن تواجهه لو كان المغرب العربي يعمل كمنظومةٍ متكاملة. لا الجزائر ولا المغرب ولا تونس ولا ليبيا تمتلك القدرة—ولا الرغبة حتى الآن—في صياغةِ رؤيةٍ مُشتَرَكة تجاه الصين، وهذا بالضبط ما يسمح لبكين بتكييف عروضها لشركاءٍ مُنقَسمين وغير مُتكافئين.
الصين اليوم في لحظة قوة في المغرب العربي. لكنها لحظةٌ لم تصنعها بكين وحدها؛ بل ساهمت فيها هشاشة المنطقة، وتراجُع الحضور الغربي، وغياب التعاون المغاربي، بقدر ما ساهمت فيها الاستراتيجية الصينية نفسها. يبقى السؤال الحقيقي: هل يملك المغرب العربي القدرة على تحويل الاندفاع الصيني إلى فرصةٍ مشتركة، أم سيظلُّ كلُّ بلدٍ يتعاملُ مُنفردًا، على نحوٍ يضمنُ للصين النفوذ، ويتركُ للمنطقة مكاسـب جُزئية وخسائر بُنيوية؟
الصين تعرف ما تريد. أما المغرب العربي، فما زال مُنقَسِمًا وضائعًا يبحث عن موقعه في المعادلة.
- كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: gabarielgtabarani.com أو عبر منصة “إكس” على: @GabyTabarani



