فيكتور هوغو والإِسلام

هنري زغيب*
بالأَمانة التامَّة لمفاصل النص الأَصلي، وبالأَمانة التامَّة لجماليا النص العربي، صاغَت الدكتورة زهيدة درويش جبور ترجمتَها الأَنيقةَ كتابَ “هوغو والإِسلام” (منشورات إِريك بونييه – باريس 2023) للباحث الفرنسي لويس بلان Blin (م. 1957)، وله أَيضًا كتاب دفاع لامرتين عن الإِسلام (منشورات إِريك بونييه – باريس 2024).
ماذا في كتابه عن فيكتور هوغو؟

الكتابُ/الثقة
هذه الطبعةُ العربية حظيَتْ بثقَتَيْن: المنظمة العربية للترجمة، ناشرة الكتاب – تعاونًا مع منشورات “مؤَسسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافية” -، ومراجعة البحاثة المدقِّق الدكتور جان جبُّور، ما يعطي الكتاب مستوًى أَعلى من الرصانة الأَكاديمية التي تتميَّز بها المترجِمة الدكتورة زهيدة درويش جبور. وجاءت مراجعةُ المؤَلفِ النصَّ العربيَّ المترجَم (وهو المستشرق الخبير) تَداوُلًا مع المترجِمة، لتزيد الطبعة العربية ثقةً على ثقةٍ في رصانة المستوى.
مطالع هذا المستوى تُشرق من مقدمة المترجِمة بأَنَّ هذا الكتاب يأْتي “في زمنٍ يشْهدُ فرْضَ الإِسلام حضورَه بشدِّة على الدارسين، في المجتمعات العربية أَو في أُوروبا، وتتراوح النظرة إِليه بين الإسلاموفوبيا في المجتمعات الغربية، والاعتداد به في المجتمعات العربية عنصرًا أَساسيًّا من عناصر الهوية الثقافية”. وبهذه النظرة الشاملة تتَّضح “مكانة الإِسلام في الأَدب الفرنسي، وتحديدًا في نتاج فيكتور هوغو أَحد أَبرز كتَّاب القرن التاسع عشر”.
الإِسلام بعد مراحل
لم يكُن في أُسرة هوغو مناخٌ دينيٌّ وعى عليه منذ الطفولة والصبا، فنما في ذاك المناخ: “وُلدَ كاثوليكيًا إِنما لم يتمَّ تنصيرُه، نشأَ على أَفكار الثورة الفرنسية وكان والده ضابطًا في صفوفها، وتفتَّحَ وعيُه في وسط ثقافي متأَثر بظاهرتين: الماسونية وأَفكار فولتير ومذهبه الربوبي. سياسيًا، تأَهَّل وسْط “مناخ عرفَت فيه فرنسا تقلباتٍ متتاليةً في نظامها السياسي”.
في تلك البيئة “الكالييدوسكوبية” (الموشورية) عرف هوغو القرآن الكريم سنة 1846، وكان بلغَ النُضج فكرًا وكتابةً (44 سنة). سوى أَنه قبْلذاك “كان مقتنعًا منذ صباه بأَن الله وجود مطلق، وأَنه واحدٌ أَحد”. وكان كتَبَ في نصٍّ له: “ليس إِلَّا إِلهٌ واحدٌ حقيقيٌّ، أَحدٌ، هو كلُّ شيْءٍ إِلى الأَبد”. وتلك القناعات “هي التي أَسَّسَت لانفتاحه على روحانية الإِسلام، وأَصَّلَت علاقته بها”.

بين الدين وممارسات رجاله
كان هوغو يميِّز جليًّا “بين الدين، أَيِّ دينٍ (كما يفهمُه عامةُ أَتباعه وكما يمارسه رجال الدين)، وبين جَوهره: الدعوة إِلى التجاوز الروحي على طريق الله”. وهذا ما يتجلَّى واضحًا من “مناهضته الإِكليروس في المسيحية، وانتقاده تواطُؤَ رجال الدين المسلمين مع السلطة”.
في هذا البحث المدقِّق، تابع المؤَلف تأْثير النص القرآني في قصائد هوغو، معانيَ ومفرداتٍ وإِيقاعًا وتفنُّنًا في أُسلوب القصيدة، ما يشير إِلى “تَشَبُّعِه من القرآن الكريم وعمْق استيعابِهِ مضمونَه ولغتَه”.
بين قصائده الكثيرة، تبقى أَشهَرَها قصيدتُهُ “السنة التاسعة للهجرة” (من مجموعته “أُسطورة العصور”). وهو أَثْبتَ فيها “مقدرتَه الفنية واحترامَه وتعاطُفَه ومحبتَه حيال النبي محمد. وبدا ذلك جليًّا في رسمه للنبي صورةً خَلْقية وخُلُقية، وفي وصفه الساعات الأَخيرة من حياة الرسول، بقلمٍ مغمَّسٍ في حبر القلب”.
الخمسةُ الفصول
تدرَّج المؤَلف في كتابه على خمسة فصولٍ بيِّنَة التدقيق: “الاكتشاف البطيْء للعقيدة الإِسلامية”، “الإِسلام في مجموعة “أُسطورة العصور”، وتحديدًا فيها: قصيدة “السنة الهجرية التاسعة (156 بيتًا) وقصيدة “الأَرْزة” (104 أَبيات)، “الافتتان بروحانية الإِسلام”، “فيكتور هوغو والدين”، “من الفكْر الملتبِس في “الشرقيات” إِلى وعي حقيقةِ الإِسلام”.
بهذا التدرُّج اتَّبَع المؤَلف طريقَه في البحث، بعيدًا عن الأَحكام المسْبَقة، مستندًا إِلى ثلاثة عناصر: ثقافة أَدبية غنية، معرفة واسعة بالإِسلام، ومنهجية نقدية واضحة. وبدا ذلك للمترجِمة في مقدمتها “أَحدَ باحثين قلائل اهتمُّوا بحضور الإِسلام في الأَدب الفرنسي”. وهذا “يُسهم في إِرساء الحوار بين الثقافات على المعرفة والاعتراف المتبادل. وترى الدكتورة زهيدة أَن أَبرز ما في الكتاب “ليس التأْكيد أِو النفي في مسأَلةِ اعتناقِ هوغو الدينَ الإِسلامي، بل هو تَوقُ هوغو إِلى المصالحة بين الأَديان، انطلاقًا من وحدتها الروحانية، وتأْسيسًا جوهرَ المصالحة بين البشر وبين الإِنسان والخليقةِ التي هو مؤْتَمَنٌ عليها.
التماهي الخلَّاق
من شدَّة احترام هوغو شخصيةَ النبي، كما يذكر المؤَلِّف، بلغ أَحيانًا أَن تماهى به. سوى أَنه لم يعتنق الإِسلام في أَواخر أَيامه، عكسَ ما يعتقدُه كثيرون من المسلمين اليوم. وليس من الضروري أَن يكون المرءُ مسْلمًا كي يحترمَ الإِسلام. فــ”هذا الإِرث المجهول، أَو حتى المنسيّ، يجعل منه ترياقًا فريدًا ضدَّ ما يسمَّى بصدام الحضارات، وهو واقعًا صراعُ الجهالات”.
في المقدمة التي خصَّ بها المؤَلفُ الطبعةَ العربية، ذكَرَ أَن “القارئَ العربيَّ يعرف هوغو من خلال روايَتَيْه “البؤَساء” و”أَحدب نوتردام”، أَكثرَ مما يَعرف قصائده التي نادرًا ما تُترجَم. مع ذلك يعتبره الفرنسيون أَحد أَعظم شعرائهم، ويجهلون أَن شعرَه يزخر بالإِشارات إِلى الإِسلام. فهو وجَدَ في القرآن صدًى لتساؤُلاته، ومصدرَ إِلْهامٍ صوفيٍّ في قصائدَ له من أَجمل ما كتَبَ عن الروحانية الإِسلامية أَديبٌ غيرُ مسْلم. ولم تركِّز الدراساتُ النقديةُ على مكانة الإِسلام في أَعماله”.
بهذه الروحية الناضجة المنفتحة، تتجلَّى علاقةُ هوغو بالإِسلام، عبر “مسارٍ شخصيٍّ طويلٍ زاخرٍ بالتجارب والتأْثيرات، تطوَّر من الجهْل بدايةً إِلى تَمَثُّلٍ يكشفُ عن فهمٍ عميقٍ جوهرَ الإِسلام.
مسار عاطفي أَكثرُ منه عقلانيًّا
هكذا تمكَّنَت زهيدة درويش جبور، بترجمتِها الدقيقة وتحقيقها الأَكاديمي، من إِبراز رؤْية الإِسلام لدى فيكتور هوغو، وكيف مع العمر تحوَّلَ من مُدافع عن النظام الملَكي إِلى مفكرٍ ديموقراطي، ومن الإِيمان الربوبيّ الفولتيري إِلى الكاثوليكية، فإِلى الإِيمان بوحدة الوجود والروحانية الصوفية “في مسار عاطفي أَكثر منه عقلانيًا، متجاهلًا التناقضات، ساعيًا إِلى تنظيمِ ما يراودُه من أَفكار صوفية وباطنية”.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت – دُبَي).




يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.