عمره 92 سنة… قرأَ 3599 كتابًا

مخطوطتُه التي من 109 صفحات

هنري زغيب*

قد تبدو في الخبر مبالغة، لكنها حقيقة مُوَثَّقَة.

قبل أَيام، توفّي في كولومْبُس (عاصمة ولاية أُوهايو) الضابطُ البحريُّ المتقاعد (منذ سنة 2000) دان پـيلْـتْـزِر عن 92 سنة. وعوض تقديم الزهور في مأْتمه، قدَّمَت أُسرته عنوانَ موقع إِلكتروني يضمُّ صفحاتِ مخطوطةٍ دوَّن فيها بخطِّه عنوانَ كلِّ كتاب قرأَه، ومُلخَّصًا موجزًا عنه. بلغَت المخطوطة  109 صفحات، وبلغ مجموع ما قرأَه 3599 كتابًا.

ما قصة هذا القارئ الشغوف؟

100 صفحة كلَّ يوم

منذ تقاعدَ سنة 2000 من البحرية الأَميركية (هو من مواليد 1933 في ديترُوْيْتْ – ميشيغان)، راح يُدمن على زيارة المكتبة العامة في كولومبُس حتى أَصبحت بيتَه الآخَر، يقرأُ فيها على الأَقلّ 100 صفحة يوميًّا.

بدأَت هواية القراءة لديه منذ سنة 1962. قرأَ كلَّ نوع من مواضيع الكُتُب. وكان، كلَّما أَنجز كتابًا، يدوِّن بخطَّه عنوانه وملخَّصًا موجزًا عنه في دفترٍ بدأَ نحيلًا لكنه انتهى ضخمًا في 109 صفحات.

غلاف الموقع الإِلكتروني باسْمه

الأَول والأَخير

آخر ما قرأَ قبل أَن يضعف النُور في عينيه مطلع سنة 2025: “أُوْليس” رواية الكاتب الإِيرلندي جيمس جُوْيْسْ (1882-1941)، و”الجبل الرمادي” للروائي الأَميركي المعاصر جون غْريشَام (مولود عام 1955، وهو أَكثر الكتَّاب الأَميركيين رواجًا، بلغت مبيعات رواياته الـ37 حتى اليوم 300 مليون نسخة).

أَول كتاب قرأَه كان “النِيْل الأَزرق”، صدر عام 1962 للكاتب الأُسترالي آلان مُورهيْد (1910-1983)، والثاني “بابيت”  صدر عام 1922 للكاتب الأَميركي سِنْكْلير لُوِيس (1885-1951)، والثالث “فئران وحشرات” لعالِم الفيزياء الأَميركي هانس زِنْسِر (1878-1940)، ما يعني أَنه كان يقرأُ أَيَّ كتابٍ يَجده في المكتبة، من دون أَيِّ تمييز أَو تفضيل لِموضوعٍ معين.

هو والقراءة: حكاية عشق

يَعتبر دان أَنه عاش حياةً هانئة أَمضاها في قراءة هادئة طوال 63 سنة (1962- 2025). حكايةُ عشْقِه الكتابَ بدأَت سنة 1962 وكان عضو “هيئة السلام” في النيبال. تردَّدَ هناك على مكتبة صغيرة تضم نحو 150 كتابًا، راح يلتهمها كتابًا بعد كتاب، فأَنِس إِلى القراءة، وانطلقت من هناك هوايتُه المطالعَةَ، وتدوين عنوان كلّ كتاب ومختَصَر عنه، وراحت تتنامى حتى بلَغَت ما بلَغَتْه في آخر حياته… كان يُصرُّ أَن يُنهي أَيَّ كتابٍ يبدأُ بقراءته، ولو لم يكُن أَحبَّ موضوعَه. لذا قرأَ رواياتٍ ومسرحياتٍ وشعرًا وقصصًا وأَبحاثًا علْمية وأَكاديمية وتاريخية.

آخر صورة له قبل أَن يغيب

المكتبة بيتُه الآخَر

كانت المكتبة العامة في مدينة كولُمْبُس بيتَه الآخر، يَدلُف إِليها يوميًّا. بعد وفاته قالت ابنته مارسي عنه في لقاءات صحافية: “كاد يحب هذه المكتبة أَكثر من بيتنا”. وَرَوَت أَنه في طفولتها، كان بعد ظُهر كل سبت يصطحبها مع شقيقها توم إِلى المكتبة، وسجَّل اسميهما في سجل رواد المكتبة الدائمين. وتؤكد أَن والدها كان أَكثر الرواد استعارةَ كتُبٍ من تلك المكتبة.

موقع إِلكتروني باسْمه

احترامًا ذكْرَ والدها وذكراه، وتخليدًا هوايتَه الفريدة، وحيال استحالة توزيع نُسخ ورقية من مخطوطته الضخمة (109 صفحات) وفيها عناوين الكتب التي قرأَها مع مختصرات عنها، عمدَت مارسي إِلى تصوير جميع صفحات المخطوطة، بوضوح تام، ونشرَتْها كاملةً في موقع إِلكتروني أَنشأَتْه لهذه الغاية، وأَسْمَتْهُ “ماذا قرأَ دان”، كي يزورَه متابعون من كل العالم ويعرفوا ماذا قرأَ والدها دان خلال 62 سنة. ولكي يكون الموقع أَكثر فائدة من مجرد الاطِّلاع، كتبَت مارسي أَنَّ مَن يزور الموقع، يمكنه التبرع ولو بِمبلغ ضئيل، باسْم “المركز التطوعي لتأْمين غذاء الفقراء”.

تعميمًا الفائدةَ

من رواد الموقع مَن علَّقوا بأنَّ تجربة دان أَلهمتهم أن يفعلوا مثله ويدوّنوا عناوين الكتب فور يُنجزون قراءَتَها، تشجيعًا ذويهم وأَقرباءَهم وأَصدقاءَهم على المطالعة. ولا ضرورة أَن يكون التسجيل بالخط اليدوي يُراكم الصفحات، حيال المتوافر اليوم من وسائل تقنية ووسائط إِلكترونية وتطبيقات جاهزة ومواقع كثيرة جدًّا، تُشْرك روَّادها وزوارها بما يقرأُه مِن كتُب مَن يدوِّن على صفحاتها عناوينَ قراءاته، ويُشجِّع الآخرين على قراءتهـا، طالَما أَكثرُ الكُتُب موجودة بكاملها أَو بنبذة عنها على شبكة الإِنترنت.

هكذا تتعمَّم الفائدة، وتبقى للكتاب، ورقيًّا أَو مُرَقْمَنًا، هيبتُه وحاجة الركون إِليه.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر منصة إكس على:  @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت- دُبَي).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى